أرشيف المغرب .. مؤسسة عمومية بعمق استراتيجي
بقلم : عزيز لعويسي
مكاسب ومنجزات كثيرة، طبعت عهد جلالة الملك محمد السادس، منذ جلوسه على عرش أسلافه الميامين، استعرض جلالته بعضها، في خطاب الذكرى 24 لعيد العرش المجيد، الذي شكل خارطة طريق جديدة لمغرب جديد، قوامها “الجدية” وما يرتبط بها من مسؤولية والتزام ومصداقية واستقامة ونكران للذات، ومن تشبث بثوابت الأمة، واستحضار لامحيد عنه، لمصالح الوطن وقضاياه المصيرية والاستراتيجية؛
مكاسب ومنجزات متعددة الزوايا، طبعت تاريخ المغرب الراهن خلال العقدين الأخيرين، يصعب النبش في حفرياتها كاملة، دون التوقف عند محطة مفصلية، في مسار إرساء دولة القانون والمؤسسات، ويتعلق الأمر بحدث إصدار أول قانون منظم للأرشيف في تاريخ المغرب المستقل، ونقصد هنا القانون المتعلق بالأرشيف رقم 69.99 الصادر بتاريخ 30 نونبر 2007، الذي أتى في سياق ما شهده العهد الجديد، من دينامية إصلاحية وتنموية، عاكسة لإرادة ملكية سامية، رامت الانخراط الذي لامحيد عنه، في إرساء لبنات ودعامات مغرب العدالة والمصالحة مع الذاكرة والتاريخ والإنصاف والحقوق والحريات، بالموازاة مع الدفع في اتجاه كسب رهانات معركة البناء والنماء والإصلاح والتحديث؛
قانون تأسست بموجبه مؤسسة أرشيف المغرب(2011)، التي أنيطت بها أساسا مهمة “صيانة تراث الأرشيف الوطني، والقيام بأرشيف عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها، لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية”، وتم الارتقاء بها – علاوة على تمتيعها بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي – إلى مستوى المؤسسات العمومية ذات “الطابع الاستراتيجي”، وهذا الوضع الاعتباري، عكس وقتها، رؤية سديدة ومتبصرة لجلالة الملك محمد السادس، لتكون المؤسسة بمعزل عن تأثير الحكومات المتعاقبة، وخارج دائرة الحسابات السياسوية الضيقة، حتى تضطلع بأدوارها كاملة، كجهاز عمومي حاضن للتراث الأرشيفي الوطني، ضامن لاستمرارية الدولة والمؤسسات، ومواكب للتوجهات الاستراتيجية للدولة؛
المؤسسة الأرشيفية ومنذ أن خطت خطواتها الأولى، بتعيين مديرها الدكتور جامع بيضا من قبل جلالة الملك، وضعت ضمن أولوياتها، بناء الترسانة القانونية والتنظيمية للأرشيف، والتي استكملت آخر حلقاتها بإصدار المرسوم التطبيقي (2.14.267)، القاضي بتحديد شروط وإجراءات تدبير وفرز وإتلاف الأرشيف العادي والوسيط، وشروط وإجراءات تسليم الأرشيف النهائي (04 نونبر 2015)، وبعده المرسوم القاضي بإحداث المجلس الوطني للأرشيف (8 غشت 2017)، وبالموازاة مع رهان استكمال اللبنات القانونية والتنظيمية، فتحت المؤسسة عدة جبهات، عبدت الطريق، لوضع اليد على عدد من الأرصدة والنفائس الوثائقية تنوعت بين “العامة” و”الخاصة”، ويسرت سبل الانخراط المتبصر في عدة اتفاقيات وشراكات تعاون، عززت ما تتطلع إليه من تعاون وتبادل للخبرات وتواصل وإشعاع وطني ودولي؛
ومهما كانت طبيعة الجبهات والأوراش المفتوحة، ظل العمق الاستراتيجي، خيطا رفيعا يتحكم في تحركات واختيارات المؤسسة، بعدما نجحت بثقة ونجاعة وبعد نظر، في تنظيم عدة ندوات ومعارض علمية وثقافية، داعمة للتوجهات الاستراتيجية للدولة ومسايرة لنهجها الدبلوماسي، ونشير في هذا الإطار على سبيل المثال لا الحصر، إلى معرض “العلاقات المغربية السعودية بين الأمس واليوم”، الذي احتضنه رواق المؤسسة (من 14 شتنبر إلى 20 نونبر 2022)، بشراكة مع “دارة الملك عبدالعزيز” ، تفعيلا لبنود مذكرة التعاون الموقعة بين المؤسستين (16 شتنبر 2021)، وتنزيلا لمقررات الدورة الثالثة عشر للجنة المشتركة المغربية السعودية (المنعقدة بالمغرب شهر يونيو 2022)، وهو المعرض الذي وثق بالصورة، لتاريخ العلاقات المغربية السعودية في أبعادها الدبلوماسية والثقافية والروحية، وعزز الصلات الأخوية الوثيقة التي تربط بين المملكتين الشقيقتين المغربية والسعودية؛
في ذات الإطار، وتناغما وتفاعلا مع ما تتفرد به المملكة، من قيم المحبة و السلام والعيش المشترك، سبق أن نظمت المؤسسة معرضا تحت عنوان “الحضور المسيحي بالمغرب: العيش المشترك”(20 مارس- 30 ماي 2019)، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، كان فرصة لتوجيه البوصلة، نحو ما طبع العلاقات بين المغاربة المسلمين والمسيحيين عبر التاريخ، من تسامح وعيش مشترك، وما ميز الصلات بين الدولة المغربية وحضيرة الفاتيكان، من مظاهر التواصل منذ أقدم العصور، كما تعبر عن ذلك المراسلات و البعثات والزيارات المتبادلة، وهذه القيم المغربية الضاربة في القدم، راهنت المؤسسة على التعريف بها خارج أرض الوطن، من خلال مبادرة تنظيم معرض مماثل بمدينة ”دون لاوجير” بجنوب دبلن (يناير 2023)، خاص بالصور والمخطوطات الدالة على الوجود المسيحي بالمغرب، وذلك بشراكة مع سفارة المملكة في إيرلندا ؛
ومواكبة منها للحضور الوازن للمغرب في العمق الإفريقي، ووعيا منها بالأدوار التي يمكن أن يضطلع بها الأرشيف، في خدمة قضية الوحدة الترابية للمملكة وتوثيق الترابطات الثقافية والروحية مع البلدان الإفريقية، واحتفاء بالأسبوع الدولي للأرشيف، واليوم العالمي لإفريقيا، وكذا بالرباط عاصمة للثقافة الإفريقية، نظمت المؤسسة ندوة (9 و10 يونيو 2022) في موضوع “أرشيفات إفريقيا: الواقع والآفاق” بشراكة على التوالي مع مدرسة علوم المعلومات (بالرباط) والمدرسة الوطنية دي شارط (بباريس)، حضرها ونشطها خبراء ينتمون إلى مؤسسات للأرشيف بعدد من الدول الإفريقية، إضافة إلى خبراء دوليين، تم من خلالها تبادل الرؤى والتجارب والخبرات حول قضايا الأرشيف؛
وتجسيدا لما تتفرد به المملكة من قيم السلام والتسامح والعيش المشترك، وحرصا منها على إبراز التعدد الثقافي والثراء الهوياتي للمغرب، أولت المؤسسة الأرشيفية الوطنية، اهتماما بالذاكرة اليهودية المغربية، انسجاما مع العناية الملكية السامية بالموروث الثقافي العبري، وأمكن لها وضع اليد على عدد من الأرشيفات العاكسة للتاريخ اليهودي المغربي، عن طريق مؤسسات أو شخصيات يهودية أو ورثتهم، كما هو الحال بالنسبة لشخصية الراحل حييم زفراني، أحد أعلام الفكر اليهودي المغربي”، الذي احتفت به المؤسسة عبر معرض تحت عنوان “حييم زفراني: من أعلام النبوغ اليهودي المغربي” (نونبر 2021- مارس 2022)، نظم بشراكة مع جمعية الصويرة- موغادور التي عهدت بأرشيف الفقيد إلى المؤسسة، بحضور مستشار جلالة الملك والرئيس-المؤسس لجمعية الصويرة- موغادور، السيد أندري أزولاي، وفي سياق متصل، ومواكبة منها للعهد الجديد الذي دخلت فيه العلاقات بين المغرب وإسرائيل، عقب الاعتراف التاريخي الإسرئيلي بمغربية الصحراء، بادرت المؤسسة إلى توقيع مذكرة تفاهم (26 يوليوز 2023)، مع أرشيف دولة إسرائيل، تروم الحفاظ على الذاكرة والتاريخ اليهوديين المغربيين، وتبادل الخبرات والتجارب في مجال الأرشيف…
وتثمينا للهوية المغربية المتعددة الروافد، خاصة في بعدها الأمازيغي، انخرطت المؤسسة منذ تأسيسها، في صلب توجهات الدولة في مجال النهوض بالثقافة الأمازيغية بكل مستوياتها وامتداداتها، سواء تعلق الأمر باستجماع الأرشيفات العاكسة للتاريخ والتراث الأمازيغيين، أو بتنظيم الأنشطة العلمية والثقافية والإشعاعية الداعمة للذاكرة الأمازيغية، ونشير في هذا الإطار إلى المعرض المقام حاليا برواق المؤسسة، تحت عنوان “ابراهيم أخياط: مسار مناضل من أجل الأمازيغية”، الذي افتتح بمناسبة اليوم العالمي للأرشيف (09 يونيو – 20 نونبر 2023)؛
هي إذن، تدخلات من ضمن أخرى، عاكسة لمؤسسة عمومية، تجاوزت بسرعة دهشة البدايات، وتخطت إكراهات المدخلات، ونجحت رغم قلة ذات اليد، في أن تكون واحدة من المؤسسات العمومية الأكثر دينامية وحضورا في المشهد الإعلامي الوطني، ولم يكن ليتحقق هذا الإشعاع، لولا ما تزخر به المؤسسة من خبرات وكفاءات شابة، وجدت/ مديرا طموحا ومبدعا وملحاحا، حولها إلى طاقة مبدعة وخلاقة، حولت في سنوات قصيرة، اللاممكن إلى ممكن والتحديات القائمة إلى نجاحات؛
واذا كانت المؤسسة اليوم، باتت داعمة للتوجهات الاستراتيجية للدولة ومتناغمة معها، عبر ما تقدمه من أعمال وأنشطة علمية وثقافية وإشعاعية متعددة الزوايا، وخير مواكب وداعم للدبلوماسية المغربية، استحضارا لمشاركاتها وحضورها الوازن في الملتقيات والمحافل الدولية، فالفضل في ذلك يرجع إلى ما تتحلى به الإدارة والشغيلة من قيم المسؤولية و التضحية والصبر ونكران للذت، التي سدت الثغرات التي تعتري الإمكانات والوسائل المتاحة أمام المؤسسة؛
وفي هذا الصدد، نرى أنه آن الأوان، لتمكينها من الوسائل والامكانيات المادية والبشرية واللوجستية اللازمة، والنهوض بالأوضاع المادية والتحفيزية لمواردها البشرية، بما في ذلك “حلم المقر ” الذي لازال معلقا إلى أجل غير مسمى، استحضارا للعمق الاستراتيجي للمؤسسة، واعتبارا للاستراتيجية الوطنية الجديدة للأرشيف، المرتقب الإعلان عنها متم السنة الجارية، والتي ستضع المؤسسة في صلب مرحلة جديدة بخطط وتحديات ورهانات جديدة، تضع الحكومة أمام مسؤولية العناية بهذه المؤسسة الوطنية، وإحاطة الاستراتيجية الأرشيفية المرتقبة، بما يلزم من الدعم والاهتمام، ليكون هذا الصرح الأرشيفي الوطني، كما يرضاه ويتطلع إليه، جلالة الملك محمد السادس أيده الله ونصره، مؤسسة استراتيجية عصرية، عاكسة للعمق التاريخي والحضاري للمملكة، معبرة عن صورة مغرب يمضي نحو الحداثة بصمت، ويتجه صوب المستقبل بثقة وتبصر..