إصلاح مدونة الأسرة .. مدخل الأرشيف
بقلم : عزيز لعويسي
الرسالة الملكية السامية الموجهة بتاريخ 26/09/2023، إلى رئيس الحكومة بشأن إعادة النظر في مدونة الأسرة، تفعيلا للقرار الملكي المعلن عنه في خطاب العرش لسنة 2022، عجلت بتدشين أولى حلقات مسلسل هذا الورش الإصلاحي، وذلك عقب الاجتماع الذي ترأسه رئيس الحكومة، السيد عزيز أخنوش بمقر رئاسة الحكومة بتاريخ 27/09/2023، لتنزيل مضامين الرسالة الملكية المذكورة، بحضور وزير العدل، السيد عبد اللطيف وهبي، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، السيد محمد عبد النباوي، والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، السيد الحسن الداكي، المكلفين بالإشراف على إعداد هذا المشروع بشكل جماعي ومشترك، بإشــراك ”الهيئات المعنية بهذا الموضوع بشكل مباشر، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والوزارة الوصية على قطاع التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة”، مع الانفتاح على جميع الهيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والأكاديميين المهتمين بقضايا المرأة وشؤون الأسرة”، في إطار منهجية عمل، قوامها المقاربة التشاركية الواسعة، كما ورد في ذات الرسالة الملكية؛
وإذا كان الإصلاح المنشود يبقى مؤطرا بفحوى الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة، ومستندا على ” المبادئ الأساسية والتوجهات الرئيسية التي أطرت إعداد المدونة”، والتي حدد جلالته مبادئها في الخطاب المؤرخ في 10 أكتوبر 2003 أمام البرلمان، وتم التأكيد عليها في خطاب العرش الموجه إلى الأمة في 30 يوليوز 2022، ومحكوما بضرورات مراعاة “مقاصد الشريعة الإسلامية” و”خصوصيات المجتمع المغربي”، و”فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح” و”التشاور والحوار”، و”إشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”، فنرى حسب تقديرنا، أن أية رؤية إصلاحية ناجعة ومتبصرة، لابد أن تستحضر “مدخل الأرشيف”، عبر مراجعة مختلف الأرشيفات ذات الصلة بالمرأة خصوصا والأسرة عموما، المحفوظة في عدد من المؤسسات والهيئات، من قبيل “محاكم الأسرة” للتثبت من الصعوبات الواقعية والإكراهات القانونية التي واجهت التطبيق القضائي للمدونة على مدى حوالي عشرين سنة، و”الاجتهاد القضائي” لرصد اتجاهات القضاء المغربي في مجال الأسرة، و”العدول” في إطار المهام المنوطة بهم فيما يتعلق بالأسرة، و”الشرطة” عبر خلايا النساء ضحايا العنف، و”المجلس العلمي الأعلى” وما يرتبط به من مجالس علمية محلية، على مستوى وضع الإصلاح في صلب مقاصد الشريعة الإسلامية والخصوصيات الثقافية للمجتمع المغربي، “والإعلام السمعي البصري”، من خلال ما أنتجه وينتجه من برامج تعنى بقضايا المرأة والأسرة، و”الجامعات” فيما يتعلق بالندوات والدراسات والبحوث العلمية ذات الصلة بالأسرة، و”البرلمان” باعتباره المعني بالتشريع الأسري، و”الأحزاب السياسية” وغيرها من المؤسسات والهيئات التي راكمت من خلال ما تمارسه من مهام وأنشطة، أرشيفات تقارب قضايا الأسرة برمتها؛ دون إغفال أرشيفات الخطب الملكية السامية، التي طالما شكلت محددات موجهة للحكومات، عاكسة للعناية الفائقة التي ما فتئ يوليها الملك محمد السادس للمرأة والأسرة عموما، باعتبارها القاعدة الأساس، لبناء مجتمع سليم ومتماسك ومتوازن؛
ونحن نمد جسرا بين ورش إصلاح مدونة الأسرة من جهة، وحقل الأرشيف من جهة ثانية، هي مناسبة للتأكيد أن الأرشيف وعلاوة على أبعاده التاريخية والتراثية والهوياتية والعلمية، هو في ذات الآن مرآة عاكسة للدولة العصرية وما تتطلع إليه من حداثة ونهوض وارتقاء، وبين هذا وذاك، هو “بنك معلومات” يتيح زخما كبيرا من المعلومات العاكسة للسلوك السياسي والإداري، وما يرتبط به من ممارسات وخطط واستراتيجيات وتوجهات واختيارات، وهذا “الزخم المعلوماتي الأرشيفي”، يقتضي الدراسة والتحليل والتمحيص، بما يساعد على صناعة قرارات مسؤولة مبنية على “النجاعة” و”التبصر”، تسمح بمواجهة المستقبل بحكمة وشجاعة وثبات، بعيدا عن ممارسات الارتباك والعشوائية والارتجال؛
وفي هذا الإطار، نرى أن عملية إصلاح المدونة، على غرار مختلف القوانين والمشاريع الإصلاحية التي تتبناها الدولة وطنيا وجهويا وإقليميا، من الضروري أن تستحضر “البعد الأرشيفي”، من أجل اتخاذ قرارات صائبة وسديدة، أما الرهان على الإصـلاح بمعزل عن المعلومات التي توفرها الأرشيفات، فنــرى فيه نوعا من “المجازفة”، التي قد تؤسس لقرارات معيبة، محدثة للجدل أو الارتباك، ما لم نقل مشوشة على “الأمن القانوني” وعلى “التماسك الاجتماعي”، خاصة لما يتعلق الأمر بالقوانين التي تمس المعيش اليومي للمغاربة، وترهن حياتهم لعقود من الزمن؛
ونختم بالقول، بقدر ما نرى أن القرارات الناجحة والمتبصرة، تمر عبر الاستثمار الأمثل للمعلومات المحفوظة في الأرشيفات، بقدر ما نؤكد أن المرور إلى الأرشيف، ليس بالأمر الميسر كما قد يعتقد البعـــض، لاعتبارات متعددة المستويات، مرتبطة بتواضع ثقافة الأرشيف في أوساط الإدارات والمؤسسات وصناع القرارات بشكل خاص، ومشاهد الارتباك التي لازلت تلازم واقع الممارسة الأرشيفية، وضعف مؤشــرات “المسؤولية” و”الجدية” في التعامل مع “المسألة الأرشيفية” كتراث وحداثة، وكذا لمحدودية الوسائل المادية والبشرية والقانونية المتاحة أمام “أرشيف المغرب” باعتبارها الجهاز الوصي على الأرشيف العمومي، مما يحول دون الاضطــلاع بأدوارها كاملة، في فــرض الرقابة على المشهد الأرشيفي في الوسط الإداري، ومهما أسهبنا في استعـــراض المشاكل والمعوقات المطروحة، فلابد من الإقــرار، أن صناعة القرارات الصائبة، لابد أن تمر عبر مدخل الأرشيف، وعلى هذا الأساس، فكل الجهات والأطراف المعنية بإصلاح مدونة الأسرة، تبقى مطالبة باستحضار هذا المدخل، وفي استحضاره، استحضار للمعلومة التي تبقى مرتكزا لأي إصلاح رصين و ناجح…، مع ضرورة التذكير، أن المشاورات الواسعة الجارية بشأن إصلاح المدونة الأسرية، ستفرز رصيدا أرشيفيا، يستدعي من الآن، حفظه وحسن تنظيمه وتيسير سبل الاطلاع عليه، مراعاة للحق في المعلومة، ومؤسسة “أرشيف المغرب”، من اللازم أن تدخل على خط ما سينتج من أرشيفات، وتقدم ما تراه مناسبا من خبرة، حرصا على سلامة هذه الأرشيفيات النوعية، التي ستكون بدون شك، قيمة مضافة للتراث الأرشيفي الوطني.