إنّك بحق لمن المحظوظين بقلم : حميد شعيبي

admin12 فبراير 2021آخر تحديث :
إنّك بحق لمن المحظوظين بقلم : حميد شعيبي

إنّك بحق لمن المحظوظين

بقلم : حميد شعيبي 

الليل والذكريات والتأمل رفاق لا مندوح عنهم ، الليل بهدوئه وخشوعه ، والذكريات خزان حنين وشوق ، والتأمل أداة استحضار مثالية لصور ومشاهد الماضي إلى حيز ذهني ميتافيزيقي خصب جدير بالخدش والنبش…
ليلة هادئة وظلام بهيم يكتسح المكان ولا منفذ إلى عالم النور سوى من سنا فتحة القمر الهلالية،السواد يجعل من الأرض والسماء سيان…
رأسه بالمقابل تعج بوابل من الذكريات ومترددة في القبض على حلقة من الحلقات الحياتية المنصرمة ، عيناه موصدتان تسعفان بذلك في القطع مع عالم الملحوظ وتطفقان بإغلاقهما المتأمل والمتبصر في استنفار شحنة إيجابية قمينة بتشغيل محرك الفكر الجارف ، خَلَّفَتا بانسيابية انسلال رعشة إلى الفؤاد بنفحة شوق ونوستالجيا ، كفيلة لا محالة في وصل الماضي بالحاضر …
بعد لملمة جياشة وخدش جميل انفتحت المقلتان وبريق بياض يشع من خلال رموشهما…
لا ريب أنّه ألقى القبض على ذكرى بدأت بحكم السنوات تندس ، شيئا فشيئا ، في أرشيف المنسيات ،ليس من حيث حدثها ومحطتها بل من حيث تفاصيلها الدقيقة ؛ إنّه أبى إلا أن يستحضر أيام تعيينه أول مرة معلما في الجبل ، تقهقر بذاكرته ردحا من السنون إلى الوراء….حدث فاصل في حياته ، مستهل مشوار اعتبره آنذاك تجربة جديدة ، رافدا حقيقيا تتأسس عليه شخصيته مستقلةً في منأى عن الاتكالية الفطرية الحتمية المتواترة جيلا بعد جيل…
لقد تشبع قبلها بتكوين بيداغوجي نظري ، لن ينساه ، في بحر سنتين بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بمدينة تارودانت ، سنتين حافلتين بأحداث غزيرة وبشخصيات غفيرة ،…سمتهما استشراف عالم الشغل وتحقيق الذات المادي والمعنوي…انقضت السنتان سريعا حالهما حال سنوات الدراسة ، الزمن الجميل ، الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية ، تباعا … حكمت الأقدار أن يعيّن ميدانيا أول مرة بمجموعة مدرسية قابعة قصيا بين طيات جبال الأطلس الكبير الشامخة والوعرة ، وبالضبط بين جبل “توبقال” وجبل “سيروا”…بعد رحلة متعرجة بتعرج فجاج معقدة الالتواء عبر شاحنة ، تدب دبّ الحلزون ، رحلة طويلة كليلة لا تكاد تبلغ هدفها أبدا …. (وبدون تفاصيل يصعب عليه أن يَسْبُرَ أغوارها بتدقيق لمرارتها ورتابتها …) بلغ أخيراً الجماعة الترابية لمجموعته المدرسية ، حيث وجد دكاكينا مغلقة ملتفة حول ساحة رحبة ، ساحة حيث ينعقد السوق الأسبوعي ، أشبه بقرى رعاة البقر الأمريكية ، مكان شبه ميت لا حركة فيه ولا حتى ضجيج سوى صفير ريح صرصر عجلت بإخراجه لجلباب صوفي وقفازتين جلديتين من حقيبته ….
وفجأة داهمه من خلف أكمة ، حيث المدرسة المركزية من بناء مفكك ، رجل ينتظره بفارغ الصبر ، إنه السيد المدير …قال له وابتسامة تعتلي وجنتاه ، تخفي الشيء الكثير : “إنك آخر الملتحقين ولم يفضل لك سوى فرعية(وحدة مدرسية) تنأى بساعتين قدما من هنا….”. ثم استطرد بنبرة لا تعكس الحقيقة بالمرة ، لربما مواساة أو مزحة : “إنّ بتعيينك هذا وبهذه المجموعة المدرسية لأنْتَ حقا من المحظوظين …”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة