الجديدة بين التجميل والتقبيح أو ” لَعْكر على لَخْنونة ” !
بقلم : حسن فاتح
نأسف جيدا على استعمالنا لهذا العنوان “المقرف” و”المقزز” في حق مدينتنا الجميلة، لكن ليس لدينا وصفا أخف قدحا وذما مما نملك، فعلى الفرد أن يتحلى بالشجاعة والصراحة، وأن يصف الأشياء بمسمياتها، من أجل إحراج المجرمين الذين ساهموا في تشويه وتقبيح معالم مدينة الجديدة، التي سلبت في السابق عقول المؤرخين والمغامرين والمكتشفين.
وا أسفاه على الجديدة! لقد حولها من حكمها لسنوات خلت، من غجر وثثر وهمج، إلى مدينة شبح، شاحبة بدون ملامح حضرية، فكل حواضر المغرب تتميز بطابع خاص حسب عمقها التاريخي والحضاري، وتتجمل برموز تدل على هويتها السوسيوثافية، إلا هذه المدينة التي حمّلها حكامها غصبا رمز الفساد، وصاحب الفساد مازال يقبع في السجون حتى الآن.
لقد أزالوا عن مزغان ما كان يتفاخر به الجديديون، وحولوها بغطرستهم وجهلهم المعماري إلى تجمع إسمنتي يلفه حزام من الفقر، مساكن عشوائية متسترة وهشة، تحتضن في أحشاءها قنابل إجتماعية موقوتة، بارودها الجهل والجريمة والبطالة، قابلة للانفجار في أي لحظة.
يقول الموسيقار عبد الوهاب الدكالي “كل شيء راح مع الزمن…كل شي صار في خبر كان”، وهكذا صار الأمر بعاصمة دكالة يا ابن دكالة، فكل شيء جميل في هذه المدينة يسير نحو الزوال، حتى الآثار التي تؤرخ لعراقة المدينة، والتي قاومت قرونا من الزمن، يتم تشويهها أو طمس معالمها، بدءا بتشويه أسوار الحي البرتغالي بتجار السمك، أو تفويت بنايات وأزقة عتيقة لنخاسين في الآثار، والحكم بالموت البطيء على المسقاة البرتغالية، التخطيط لمحو عمارة الكوهن لؤلؤة المعمار الفرنسي، وتجاهل الزحف الفاحش على معالم المعمار العبري.
أيها المنتخبون الدخلاء، إن أسماء مدينة الجديدة تعكس بالدليل القاطع تسلسلا أريكيولوجيا منطقيا، ومحطات جيو- تاريخية قل نظيرها في المملكة، بدءا باسم “روزيبيس” في العهد الروماني الفينيقي، إلى “مازيغن” خلال الحكم البرغواطي الأمازيغي، ثم عرفت ب”برج الشيخ” أو “البريجة” عند قدماء دكالة، ليشتق البرتغاليون اسم “مازغاو” من الاسم الأمازيغي، فيتحول بعد ذلك إلى “مزغان” مع حكم الإسبان لمملكة البرتغال، ثم لقبوها ب”المهدومة” في عهد المحرر سيدي محمد بن عبدالله، لتسمى أخيرا ب”الجديدة” على يد السلطان مولاي عبد الرحمن، وخلال الحماية الفرنسية أطلق عليها المارشال ليوطي مؤقتا لقب “دوفيل” الجميلة.
لم تعد جديدتي جميلة كما كانت من قبل، ومن يعرفها جيدا سيحكي للناس عن جمالها وأسرارها، كما تروي الجدة الحكاوي لأحفادها، حدثوهم إذن عن “الإخوة دي أرودا” و “دي رافيينا” الذين تفننوا من أجلها في تصميم الحصن والمسقاة البرتغالية، أو حدثوهم عن “السلطان مولاي يوسف” حينما كان يحط الرحال بإحدى زواياها قصد الاستراحة الروحية، أو حدثوهم عن “الملك محمد الخامس” حينما كان يفضل ضيافة الدكاليين وشاطئ الوليدية، كما لا تنسوا الحاكم الفرنسي “ليوطي” الذي فُتن بجمالها فجعلها منتجعا صيفيا له، واحكوا لهم عن المخرج العالمي “أولسن ويلز” حينما اختار مزغان جزءا من فيلمه الأسطوري “عطيل”.
يا للحسرة، يجهلون ماضي الجديدة الغني والمتنوع، ويصرون على تشويه الحاضر وتلغيم المستقبل، فالذي لم تقدر على تدميره الطبيعة تزيله أياديهم الهمجية، وينخرونه كما تأكل الأرَضَة كل شيء له قيمة، حتى يتساقط ويبرأون منه كما يبرأ الذئب من دم يوسف، كما حدث مع كازينو البحر، ويحدث الآن مع عمارة الكوهن، وصورة محمد الخامس النحاسية، ولوحة المارشال ليوطي، والفندق الدولي مرحبا، ودكاكين الشاطئ البحري، وهلم جرا … .
ماذا تنتظرون أيها الجديديون من الذي شيد سورا على البحر ك”سور الصين العظيم”؟ ماذا تأملون في من يغير تصميم المدينة جشعا وطمعا من أجل استثمار فاحش؟ ماذا تنتظر في من يتجاهل مطالب “الموتى” من أجل مقبرة مقبولة كمرقد أبدي لهم؟ ماذا تنتظر في من يحول المدينة خلال الصيف إلى سيرك و”فرَّاشات”و”حَلْقات” كالأسواق البدائية؟
وا حسرتاه يا أبناء بلدتي! شاخت مدينتي وذبلت، ولم يتبق من جمالها سوى حروف متناثرة، فلم يعد لها وجها تبتسم به للزائرين وللسياح، فعند دخولهم للمدينة تستقبلهم الكوارث من كل المداخل، يصطدمون بالقبح أينما ولت وجوههم، الحفر متناثرة في كل مكان، ومن كثرتها صارت المدينة كالرغائف المثقوبة، تراكم الأزبال في أركان الأزقة أضحت “كوكتيلا” مكدسا، وبتخمره يتولد عصير النتانة عند كل ليلة، تحولت الأحياء إلى زرائب من كثرة المواشي الراعية بين عشب الشوارع والمزابل، أما السكن العشوائي فقد تناسل بدون “عوازل طبية” حتى تكاثر كالتآليل بحزام المدينة، وفي الختام تهب روائح نتنة من مطرح النفايات زاكمة لأنوف الجديديين، وكأن شخصا ثخينا تنفس من كثرة البراز في بطنه.
هل تظنون يا معشر النصابين بأن تجميل المدينة عند كل زيارة سامية، أو إصلاح نافورة ماء وسط البلد، أو إطلاق مصابيح زرقاء على الشوارع، أو تلوين بعض الأرصفة بألوان قوس قزح، سيخدع الجديديين ويرقى بالمدينة إلى مصاف المدن السياحية الجميلة بالمغرب، “للأسف … لا”، فمشاريعكم وإصلاحاتكم تعكس جيدا مستوى أفكاركم البدائية، وأصولكم الوضيعة ونواياكم اللصوصية.
مهما جمّلتم وزيّنتم فلا شيء سينفع، وما تقومون به ليس إلا “صبيب المياه على الرمال”، أو بكل جرأة ووقاحة مني هو بمثابة “لعكر على لخنونة”، فالأولى لكم أن تصلحوا الحفر، وتزيلوا المزابل، توسعوا الشوارع، تنيروا الأرصفة، تهيؤوا الكورنيش، تلموا الحيوانات، تنظموا الحدائق، تنظفوا الساحات، تحافظوا على البنايات الأثرية، تنقلوا المحطة الطرقية، تزيلوا “الهرايا القديمة” التي تقيحت بروائح الغائط والبول.
للأسف … لا شيء يشد السائح ويجلبه نحو هذه المدينة، فعلى الزائر أن يبدل جهدا كبيرا للبحث عن فضاء للترفيه او للرفاهية، فأجمل ما في المدينة هو خليجها وبحرها، لكن المدينة بحقد مسؤوليها تدير لهما ظهرها، ووسط هذا الغبن الذي يعيشه المزغانيين، يلجأون ظلما وحلما نحو “نوسطالجيا” حزينة، فتراهم يتلمسون آثار أجدادهم، وينقبون بعشق عن كل ذكرى في ذاكرة آبائهم، عن أثر أو حجر أو شجر، يكون قد سلم من بطش يأجوج ومأجوج، وإن وجدوه يؤرخونه حتى لا يضيع هو الآخر ويذهب سدى مع الريح.
كم هو صبور هذا المواطن الجديدي، لقد صبر دهرا طويلا على ما يكره، وحين يصيبه القهر يلتف كاليتيم حول حنين الأمكنة، بين المقاهي والحدائق والساحات، وزوايا الحومة التي يفوح منها عبق التاريخ وسلالة العائلة، ولا يجد شفيعا له سوى تجميع صور وبطاقات مزغان العتيقة، ليؤثت بها صفحات التواصل الاجتماعي.
حزين جدا على أبناء مدينتي، فهم يرون الآن ماضيهم أجمل من حاضرهم، يشكون ويتألمون، ويرددون أنينهم ندما في خواطرهم، ويرفعون أكفهم للسماء تضرعا، كي ينزل على الرؤساء والمسؤولين الغشاشين غضبا إلهيا وعذابا صديدا، ليخلص الجديديين والدكاليين منهم، فما أحوجنا الآن وليس غدا، إلى جراد وقمل موسى، ورياح قوم عاد، وغرق قوم فرعون، وخسف قوم لوط، وطوفان قوم نوح، حتى يريحنا الله منهم جميعا.