الحسن الثاني .. حديث في ذكرى الرحيل
بقلم : عزيز لعويسي
تحل الذكرى السادسة والعشرين لوفاة فقيد المغرب العظيم، جلالة المغفور له، الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وإذا كانت المناسبة، تقتضي الترحم على أحد ملوك المغرب العظام الذين بصموا تاريخ المغرب عبر التاريخ، فهي فرصة لاستحضار ما تركه من منجزات وأعمال ومفاخر، حضرت فيها مفردات التحدي والطموح والصبر والتحمل، والعبقرية والحكمة والإبداع والإبهار، سواء تعلق الأمر بإرساء لبنات المغرب المستقل، وما تطلبه من أسس ومرتكزات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، أو بالرهان على سياسة البناء والتشييد، أو بصون بيضة الصحراء المغربية من أن تطالها أيادي الأعداء المكشوفين والمخفيين؛
قضية الوحدة الترابية للمملكة، ظلت في صلب اهتمامات الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أبلى رحمه الله، في حدود الممكن، البلاء الحسن في معركة الوحدة والسيادة، وتحدي استكمال الوحدة الترابية للمملكة، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، طبعه التوتر والتوجس، وميزته المؤامرات ونعرات الانقلاب والانفصال، ويسجل له التاريخ في هذا الصدد، إبداعه وتصميمه لواحدة من أضخم المسيرات النضالية السلمية في التاريخ المعاصر، استثمارا منه، لرأي استشاري لمحكمة العدل الدولية حول الصحراء، أثبت الصلات والروابط القانونية والتاريخية والروحية الوثيقة، بين ملوك المغرب وساكنة الصحراء، ونجحت هذه المسيرة الخالدة، التي حملت بصمة ملك مبدع، ولمسة شعب مكافح، في تحرير الصحراء من مخالب الاستعمار الإسباني، وإعادتها إلى أحضان الوطن الأم، وكانت بالتالي، قوة دافعة في اتجاه استرجاع ما تبقى من التراب الذي ظل أسير الاستعمار الظالم؛
وإذا كان الفقيد الحسن الثاني، نجح في تحقيق الوحدة الترابية وتعزيز اللحمة الوطنية باسترجاع الأقاليم الجنوبية، رغم السياقات الداخلية والخارجية الصعبة، فإن خلفه جلالة الملك محمد السادس، حمل مشعل الصحراء المغربية، وجعل منها قضية المغاربة الأولى، في إطار رؤية استراتيجية، راهنت على التنمية، في ربوع المملكة، ومنها مدن وأقاليم الصحراء، التي باتت اليوم، تضاهي الكثير من مدن الوسط والشرق والشمال، كما هو الشأن بالنسبة لمدينة العيون، التي أصبحت من أجمل المدن الإفريقية ومن أكثرها استقرارا وجاذبية؛
استراتيجية متعددة الزوايا، بقدر ما راهنت وتراهن على البناء والنماء والإشعاع، بقدر ما تقوم على نهج ديبلوماسي ناجع وفعال ومتبصر، أدخل دعاة الانفصال وحاضنيه، في حالة من اليأس والتيه، لما حققته الديبلوماسية المغربية تحت القيادة الرشيدة لجلالته، من فتوحات مبينة، كان من ثمارها حصاد اعترافات دول وازنة ودائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، فضلا عن المواقف الإيجابية، لعـدد مهم من الأشقاء والأصدقاء والشركاء في إفريقيا والعالم العربي وعبر جهات العالم، ومنها بلدان الخليج العربي، والجارة إسبانيا التي تعرف أكثر من غيرها، خبايا وخفايا النزاع المفتعل حول الصحراء؛
وهذه الدينامية المتعددة الزوايا، عكست وتعكس مرورا آمنا وسلسا للقضية الوطنية الأولى، من “مرحلة التدبير” إلى “مرحلة التغيير” داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف” ، ومن انتقال من “مقاربة رد الفعل”، إلى “أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية”، كما أكد جلالته في الخطاب السامي أمام ممثلي الأمة، يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشر؛
خطاب ملكي تاريخي أتى حاملا لرسائل متعددة المستويات، يقوي الانطباع أن ملف الصحراء المغربية قد طوي، أو على الأقل، يعيش أنفاسه الأخيــرة، اعتبارا للمعطيات الديبلوماسية والواقعية القائمة، وقيـاسا لحالة اليأس واللخبطة والارتباك، التي وصل إليها خصوم وأعداء الوحدة الترابية للمملكة، تحت ضغط المكاسب التي حققها المغرب منذ الاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربيــة الصحراء، واستحضارا للمبادرات الاستراتيجية التي أطلقها ملك البلاد، فيما يتعلق بمبادرة إفريقيا الأطلسية، أو بمبادرة تمكين بلدان الساحل من منفذ على المحيط الأطلسي، أو بمشروع أنبوب الغــاز نيجيريا المغرب، أو بالمشاريع والتوجهات الملكية السامية، الرامية إلى الارتقاء بمكانة وقدرات المغرب الأطلسي، والتي من شأنها تحويل واجهة الصحراء، إلى وجهة اقتصادية واستثمارية عالمية، معززة للصلات التاريخية والروحية والاقتصادية بين المغرب وعمقه الإفريقي، ومكرسة لمركزية المغرب، كحلقة وصل لامحيد عنها، بين إفريقيا وأوربا والعالم؛
وهذه المبادرات والمشاريع والتوجهات الاستراتيجية، لم تسقط فحسب، وهم الانفصال، وتدخل الأعداء الخالدين في حالة غير مسبوقة من الارتباك والسعار، بل وارتقت بملف الصحراء إلى تلك “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، وذاك “المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيـــس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”، كما ورد في الخطاب الملكي السامي الموجه إلى الأمة، بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، وهذه النظارة الحازمة، كانت كافية، لإدخال دول أوربية إلى “بيت الطاعة”، بعد عقود من التحرش والابتزاز والمساومة، وعلى رأسها إسبانيا وفرنسا، وستكون بدون شك، كافية لتذويب جليد الكثير من الدول، التي لازالت إما مصرة على حمل مشعل العداء للمغرب ووحدته الترابيـة، أو مترددة أو متموقعة في جبهات الحياد؛
المطلوب اليوم بعد “خطاب النصر” كما وصفه الكثير من المهتمين والمحللين، صون المكتسبات المحققة، بالرهان على التنزيل الأمثل لكل المبادرات الاستراتيجية التي أطلقها عاهل البلاد، لما ستساهم فيه، من ترسيخ للوحدة الترابية، وتوثيق للصلات بين المغرب وإفريقيا، ومن دعم لقدرات المملكة، التي لها من المرجعيات والأدوات والوسائل، ما يجعلها تقود إفريقيا والأفارقة نحو الوحدة والأمن والرخاء والازدهار، وهذه المساعي المشروعة، تقتضي وجود مؤسسات وهيئات منتخبة تحظى بالثقة والمصداقية، وإلى مسؤولين يزرعون الأمل بجديتهم والتزامهم، ويكرسون الإحساس الفردي والجماعي بحب الانتماء للوطن، ورجالات دولة حقيقيين، مشهود لهم بالخبرة والكفاءة والمصداقية والالتزام بثوابت الأمة، قادرين على الانخراط المواطن، في المسيرة التنموية الرائدة التي أطلقها ملك البلاد منذ اعتلائه العرش، وعلى خدمة مصالح المواطنين وقضايا الوطن، بتضحية ونزاهة واستقامة ونكران للذات، والمراد لن يتحقق، إلا بحماية المسلسل الديمقراطي من أيادي العابثين ممن تحوم حولهم شبهات الفساد، وبإشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في وجه أعداء الداخل، من الوصوليين والانتهازيين والأنانيين والحربائيين؛
بالرجوع إلى قضية الوحدة الترابية، فالرهان اليوم، هو اعتماد خطط متعددة الزوايا، تروم التعريف بعدالة قضية المغرب الأولى، والتصدي لما يروجه أعداء الوطن، من مغالطات وادعاءات باطلة، بمختلف الأدلة التاريخية والأرشيفية، والأسانيد القانونية الثابتة لمغربية الصحراء، وكل المؤسسات العمومية والهيئات المنتخبة، مدعوة – كل واحدة في حدود اختصاصاتها -، إلى تحمل مسؤولياتها والتزاماتها أمام الوطن والمواطنين، فيكفي عبثا ووصولية وانتهازية وأنانية وجشعا؛
ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون الوقوف وقفة احترام وتقدير، أمام كل مسؤولي ورجالات هذا الوطن العزيز، الذين يخدمون الصالح العام بنزاهة ووفاء وإخلاص ونكران ذات، وأمام كل أفراد القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة، الذين يسهرون بتضحية وصبر ويقظة، على حماية الحدود، وضمان الحق في الأمن والاستقرار والطمأنينة والسكينة، ونختم بالترحم على باني المغرب الحديث الملك الحسن الثاني، وبطل التحرير الملك محمد الخامس طيب الله ثراهما، وكل الشرفاء والأحرار الذين قضوا، ليبقى الوطن ويحيى الوطن، وبالدعاء لعاهل البلاد، بموفور الصحة والعافية، سائلين الله عز وجل، أن تتحقق على يديه الكريمتين، ما يصبو إليه هذا الشعب الوفي، من تنمية ورخاء وازدهار، وأمن وسكينة واستقرار.