الخبرة القضائية في مجال الأرشيف
بقلم : عزيز لعويسي
القاضي ومهما بلغت كفاءته في الإجراءات القانونية والمسطرية، ومهما وصلت إليه قدرته في ترويض النصوص القانونية والنفاذ إلى عمقها، أو مهارته في فتح باب الاجتهاد القضائي، يجد نفسه في حالات كثيرة، مضطرا إلى الاستعانة من باب الاستئناس، بخدمات بعض الخبراء أو ذوي الاختصاص في بعض القضايا المعروضة عليه، التي تتطلب خبرات في بعض النقط التقنية والفنية، من أجل فهم ما هو معروض أمامه، من ملفات وقضايا، وهذه الخبرة القضائية، لها قيمتها القانونية والقضائية، ليس فقط، من أجل تيسير الفهم وإزالة حجرات الغموض والشك والإبهام من طريق الأبحاث والتحقيقات القضائية، بل أيضا، لتمكين القاضي من اتخاذ القرار المناسب في حينه، بما يضمن حفظ حقوق المتقاضين، وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وتوثيق عروة الثقة في القضاء، وصون لحمة الأمن في أبعاده القانونية والقضائية؛
واستحضارا لما لهذه الأهمية المتعددة الزوايا، أحدث المشرع مهنة الخبراء القضائيين، وأطرها بموجب القانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين (الصادر بتنفيذه الظهير الشريف 1.01.126، في 29 من ربيع الأول 1422 (22 يونيو 2001))، باعتبارهم من مساعدي القضاء(المادة الأولى)، يتولون بتكليف من المحكمة، التحقيق في نقط تقنية وفنية على سبيل الاستئناس (المادة الثانية)، وفي هذا الإطار، إذا كان أمر اللجوء القضائي إلى الخبرة القضائية في بعض المجالات التخصصية التقنية والفنية كالطب والهندسة والميكانيك والمحاسبة، والطبوغرافيا والمسح العقاري والعمليات والتقنيات البنكية والإعلاميات، له ما يبرره من الناحية القانونية والقضائية، بالنظر إلى دقة هذه التخصصات وغيرها، والتي يصعب على القاضي الإحاطة بتفاصيلها كاملة، فإن اللجوء إلى الخبرة في مجال الأرشيف، قد يحدث لدى البعض، حالة من الارتباك والإبهام، في ظل عدم وضوح الصلات بين الأرشيف والعمل القضائي الصرف، وقد يرى فيه البعض الآخر، نوعا من الترف، في ظل بنية سياسية وسيوسيوثقافية، تتواضع فيها ثقافة الأرشيف؛
ومن باب التوضيح، وإزالة لكل لبس، لا نقصد في هذا الصدد، الأرشيف الذي يكون وينتج في مختلف أروقة المحاكم خاصة والمنظومة القضائية عامة، بل الأرشيف كدعامة خادمة للقضاء ومساعدة له، ففي حالات كثيرة، يجد القاضي نفسه وجها لوجه، أمام وثائق أرشيفية حاملة لمعطيات وحقائق، قد لا يستطيع قراءتها بالنظر إلى حالتها المادية المزرية، أو لطبيعة الخط المستعمل فيها، الذي تحتاج قراءته إلى ذوي الخبرة، أو قد يعجز عن الوقوف عند مدى “أصالة” هذه الوثائق، كعقود النكاح أو البيع والشراء أو الهبة أو الوصية أو الوكالة أو سندات الملكية وغيرها، أو يصعب عليه بالعين المجردة، التثبت من مدى صحتها، وخلوها من أي شكل من أشكال التحريف أو التزوير، وما يعزز مشروعية هذه الاحتمالات، ما بات يطال الوثائق والمستندات من أعمال التحريف والتزوير، في ظل ما بتنا نعيشه من طفرة رقمية ومعلوماتية، واعتبارا لما طال الأرشيف نفسه، من متغيرات صامته أبرزت أنماطا جديدة من الأرشيف من قبيل “الأرشيف الرقمي” والأرشيف الإلكتروني”، وفي هذا الإطار، فأية قراءة غير سليمة للوثائق الأرشيفية التي تعرض أمام القضاء كوسائل إثبات، قد تقود إلى حقيقة “مؤلمة” من الناحية القضائية، عنوانها العريض، المساس بحقوق الأفراد والجماعات، واتساع دائرة فقدان الثقة في القضاء…
بالرجوع إلى القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007)، لم يتم الوقوف عند أية عبارة أو إشارة دالة على صلاحية “أرشيف المغرب” أو “أعوانها المؤهلين” ذات صلة بمجال تقديم “الخبرة القضائية”، ما عدا ما ورد في المادة 27، التي استعرضت بإسهاب، المهام والاختصاصات المنوطة بالمؤسسة، ومنها “تقديم المساعدة التقنية” في مجال تدبير الأرشيف، لفائدة مختلف إدارات الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية والهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق عام، فضلا عن “تقديم المساعدة” فيما يتعلق بإعداد “جداول زمنية للحفظ” و”ضمان المصادقة عليها”، و”مراقبة شروط حفظ الأرشيف العادية والوسيطة ” التي بحوزة الأشخاص المعنوييـن والطبيعييـن المعنييـن، واستقراء لهذه التدخلات، يتضح أن “أرشيف المغرب”، وعلاوة على أدوارها المتعددة الزوايا ذات الصلة بصون التراث الأرشيفي الوطني، تضطلع بمهمة “تقديم المساعدة التقنية” في مجال تدبير الأرشيف العمومي، وبدون شك، لا ترقى هذه المهمة، إلى مستوى ” تقديم الخبرة القضائية” المؤطرة بموجب القانون المتعلق بالخبراء القضائيين؛
توضيحا للرؤية، فالمحكمة لما تعرض أمامها قضية، حلها يستلزم “خبرة قضائية أرشيفية” من جانب ذوي الاختصاص الأرشيفي، فحسب تقديرنا، يصعب عليها تكليف المؤسسة الأرشيفية، التي تنحصر مهامها واختصاصاتها في حدود “تقديم المساعدة التقنية” المرتبطة بالتدبير الأمثل للأرشيف، لفائدة مختلف الإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية والقضاء جزء منها، كما يصعب عليها “تكليف” أحد أعوان المؤسسة المؤهلين، الذين ينحصر دورهم، فيما يتعلق بالجانب القانوني/ الإجرائي ، في مباشرة “معاينة” المخالفات الماسة بقانون الأرشيف والنصوص الصادرة لتطبيقه (المادة 35)، كما أن هوامش تصرف المحكمة في هذا المجال، تبقى محدودة، في غياب مهنة خاصة بالخبراء في مجال الأرشيف؛
وعليه، وفي غياب المعلومة بخصوص أثر الوثائق الأرشيفية على الأحكام القضائية وجودتها، واعتبارا للفراغ الذي يعتري الساحة القضائية في مجال “الخبرة القضائية الأرشيفية”، ومن باب الاستباق القانوني والقضائي، وحرصا على جودة الأحكام القضائية خاصة في القضايا التي تستلزم أخذ رأي ذوي الخبرة الأرشيفية، وتثمينا لدور الأرشيفي ليكون فاعلا أساسيا في محيطه المجتمعي، وخادما للفعل القضائي، يمكن من باب الاقتراح، إحداث مهنة خاصة بالخبراء في مجال الأرشيف، على غرار ما تم التوجه إليه في بعض التجارب المقارنة، وذلك تيسيرا لعمل السادة القضاة في بعض القضايا المعروضة أمامهم، التي تستلزم أخذ أو استطلاع رأي الخبراء الأرشيفيين، بما يدفع في اتجاه تنزيل أو إنتاج أحكام قضائية رصينة ومسؤولة، من شأنها إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وهذا يقتضي توجيه البوصلة نحو الفاعلين في صناعة القرار القضائي والأرشيفي، من أجل التفكير في السبل الممكنة والميسرة، التي من شأنها التحرك في اتجاه إحداث مهنـة الخبراء القضائيين في مجال الأرشيف، يمكن الاستعانة بآرائهم، في القضايا النوعية، التي يمكن للأرشيفي أن يكون حاسما في تحديد نتائجها؛
مهنة الخبرة في مجال الأرشيف، هي أيضا، مناسبة لفتح ملفات مرتبطة بالأرشيفات القضائية و الذاكرة القضائية، والتكوين القضائي وحتى الأمني (الضابطة القضائية) في مجال الأرشيف، واليوم، وفي ظل المتغيرات التي شهدها ويشهدها الأرشيف، الذي بات علاوة على أبعاده التراثية، مجــالا خصبا للحق في المعلومة، واتخاذ القـــرار وحفظ حقوق الأشخاص والجماعات، بما في ذلك الدولة نفسها، وبذلك، يكـــون “جسر عبور” آمن نحو الحداثة المعززة لحقوق الإنسان، والتدبير الجيد، وربط المسؤولية بالمحاسبة، في إطار قضاء مستقل وعادل ومنصف وفعال؛
ونختم بالقول، أن المسألة الأرشيفية الوطنية، تتجاوز بدون شك، حدود السلطة العمومية الوصية على الأرشيف العمومي (أرشيف المغرب)، ويتخطى عتبات أرشيفات عمومية، ينتهي مطاف رحلتها داخل أقبيــة الإدارات العمومية وأروقة مكاتب الأرشيف، وتتعدى مطلب إحداث مهنة خاصة بالخبراء في مجال الأرشيف، هي مسؤولية دولة ومجتمع ومؤسسات وأفراد وجماعات، ومسؤولية قضاء، عصب حياته، مبني على” الوثيقة “، وهذا وحده، يكفــي للانتباه إلى الأرشيف وتقدير محوريتـه في رصانة الأحكام القضائية وجودتها، وما دمنا بصدد وضع الأرشيف في صلب العمل القضائي، من اللازم الاشارة إلى أن علاقة القضاء بالأرشيف، لا يمكن البتة، اختزالها في دائرة “الخبرة القضائية الأرشيفية” التي يمكن أن يقدمها خبراء الأرشيف مساعدة منهم للقضاء، بل تتجاوز ذلك، إذا ما استحضرنا الكم الهائل للأرشيفات التي تنتج يوميا على مستوى الجسم القضائي بكل مستوياته، واعتبرنا التحديات القانونية والقضائية التي أضحت تواجه الوثيقة الأرشيفية في زمن “الرقمنة” و”الذكاء الاصطناعي”، وهذا الوضع “الأرشيفو- قضائي”، يتطلب أكثر من أي وقت مضى، مد جسور التشاور والتعاون والتشارك بين السلطة القضائية و”أرشيف المغرب”، في القضايا ذات الاهتمام المشترك، ومن ضمنها “التكوين في مجال الأرشيف” و”النهوض بالبحث العلمي الأرشيفي القضائي” و”الارتقاء بمستوى التشريع الأرشيفي”، فضلا عن مجال “الخبرة القضائية الأرشيفية” وغيرها، وهذه الملفات، يمكن فتحها، إذا ما حضرت الإرادة أولا، وروح المبادرة ثانيا…
ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون التذكير أن “أرشيف المغرب” تتأهب للإعلان عن “الاستراتيجية الوطنية لحفظ وتثمين التراث الأرشيفي الوطني 2023-2033، وهذه الاستراتيجية الواعدة، ومهما بلغت من المتانة والجودة، فيصعب أن تتحقق الأهداف والمقاصد المسطرة لها كاملة، ما لم يتم انخراط جميع إدارات الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية، في هذه الدينامية الأرشيفية الوطنية، ليس فقط، عبر النهوض بواقع الممارسة الأرشيفية وجعلها متناغمة والقانون المتعلق بالأرشيف والمرسوم الصادر لتطبيقه، بل و الوعي بقيمة الأرشيف وبأهمية تدبيره الأمثل، لما لذلك من توثيق لتاريخ الأمة وذاكرتها الجمعية، ومن إسهام في توفير المعلومة وصناعة القرار وتعزيز آليات النزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي هذا الإطار، فالقضاء كغيره من الإدارات، لابد أن يكون في صلب هذا الموعد الأرشيفي غير المسبوق، بالدفع في اتجاه النهوض بالأرشيف القضائي على مستوى واقع الممارسة، والإسهام في تقديم حلول ومقترحات، من شأنها تعزيز الحماية القانونية والقضائية للأرشيف، في ظل ما بات يتهدد الوثيقة الأرشيفية من تهديدات ومخاطر، تستدعي آليات قانونية وقضائية ناجعة وفعالة…