تشغيل الأطفال : إهدار للموارد البشرية بين جاذبية القطاع غير المهيكل وتخلي مؤسسات التنشئة
بقلم : عزيز قشاني باحث بسلك الدكتوراه
ملخص :
تعالج هذه الدراسة إشكالية تشغيل الأطفال بمدينة الجديدة ، وتهدف إلى تحديد أسباب التحاقهم بسوق الشغل غير المهيكل، ومعرفة ظروف اشتغالهم، ثم الوقوف على التغيرات التي تطرأ عليهم نتيجة انتقالهم من تلاميذ إلى عمال. إضافة إلى تحديد تأثيرهم في المحيط ومدى مساهمتهم في جذب أطفال آخرين من المدرسة. وذلك اعتمادا على مقابلات موجهة همت مجموعة من الأطفال العاملين بالشارع في مختلف تجمعات الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة بالمدينة. وقد توصلت إلى مجموعة من النتائج ، وخرجت بتوصيات من أجل محاربة الظاهرة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
كلمات مفاتيح : الهدر المدرسي – التشغيل غير المهيكل – الاندماج غير المراقب – عمل الأطفال – الموارد البشرية.
Child labor: a waste of human resources between the attractiveness of the informal sector and the Renunciation of upbringing institutions
Abstract: This study discusses the problem of child labor in the city of El Jadida, and aims to determine the reasons for their joining the informal labor market, knowing their working conditions, and then identifying the changes that occur to them as a result of their transition from students to workers. In addition to that, this study envisages to determinine their influence on the environment and the extent of their contribution to attract other children from school. This is based on targeted interviews that concern a group of children working on the street in the various informal economic activities gathering in the city. It reached a set of results and came up with recommendations in order to combat the phenomenon in its economic, social and legal dimensions.
Key words: school waste – informal employment – unattended integration – child labor – human resources
تقديم :
يوجد عدد كبير من الأطفال خارج فصول الدراسة عبر العالم رغم تواجدهم في الفئة العمرية من (5 إلى 17) سنة، وذلك نظرا لانشغالهم بالعمل سواء داخل المنزل أم خارجه، وقد قدرت منظمة العمل الدولي عددهم ب (218) مليون طفل، حوالي (152) مليون منهم، يعتبرون ضحايا ظاهرة تشغيل الأطفال؛ إذ يُجبرون على الاشتغال قسرا، و قرابة نصفهم (73 مليون) يزاولون أشغالا خطيرة، تحرمهم من الدراسة وقد تلحق بهم أضرارا مختلفة. يوضح هذا العدد الكبير من الأطفال المجبرين على العمل أهمية إشكالية تشغيل الأطفال على المستوى العالمي، رغم تعدد الاتفاقيات الدولية التي تنص على حرمة حقوق الطفل وضرورة حمايته من كل أشكال الاستغلال الاقتصادي، حيث تضم إفريقيا (72 مليون) طفل، أي ما يفوق (47 %) من مجموع الأطفال المجبرين على العمل، وتضم منطقة آسيا والمحيط الهادي (62 مليون)، أي حوالي (41 %)، فيما تتوزع البقية على مختلف مناطق العالم. تبين تقديرات نفس الدراسة أن عمالة الأطفال الجبرية تتوزع حسب الفئات العمرية كما يلي: (48 %) تتراوح أعمارهم ما بين 5 و11 سنة، و(28 %) ما بين 12 و 14 سنة، فيما (24 %) تتراوح أعمارهم بين (15 و17) سنة.
يعرف المغرب بدوره انتشارا كبيرا لظاهرة تشغيل الأطفال وما يرتبط بها من إشكاليات، رغم توفره على نوع من الاستقرار السياسي وعدم تعرضه للكوارث الطبيعية، باعتبارها تشكل إلى جانب الحروب البيئة المناسبة لانتشار هذه الظاهرة، ورغم مصادقته سنة (2001) على الاتفاقية رقم (182) لمنظمة العمل الدولية، والمتعلقة بحظر أسوأ أشكال عمل الأطفال، والإجراءات الفورية للقضاء عليها، رغم كل ذلك، فعدد الأطفال الذين تم إقصاؤهم من التمدرس بسبب مزاولة أنشطة اقتصادية لا زال مرتفعا. في هذا السياق، أوردت المندوبية السامية للتخطيط في معطيات البحث الوطني حول التشغيل لسنة (2017) أن عدد الأطفال المشتغلين بالمغرب، بلغ (247000)، أي ما يمثل (3.5 %) من مجموع الأطفال المتراوحة أعمارهم بين (7 و17) سنة والبالغ عددهم (7049000) طفل، من بينهم (162000) يزاولون أعمالا خطيرة. وتضيف نفس الإحصائيات أن (76 %) من أطفال الأعمال الخطيرة يتواجدون بالوسط القروي، وأن نسبة الذكور منهم بلغت (81 %)، و(73 %) منهم تتراوح أعمارهم بين (15 و 17) سنة.
تستأثر أربع جهات من المملكة ب (70 %) من الأطفال الذين يزاولون أعمالا خطيرة؛ في مقدمتها جهة الدار البيضاء-سطات؛ حيث تقع مدينة الجديدة ب (25.3 %) متبوعة بجهة مراكش- آسفي ب (20.3 %) وجهة الرباط- سلا- القنيطرة (12.7 %) ثم جهة فاس- مكناس ب(11.7 %). أما بخصوص الوضع التعليمي لهؤلاء الأطفال، فإن (10.6 %) منهم فقط متمدرسون و(81.4 %) انقطعوا عن الدراسة فيما (8 %) لم يسبق لهم أن التحقوا بالمدرسة قط، وتفوق نسبة الذكور ضمنهم (80 %) مقابل (19 %) إناث.
تتميز ظاهرة تشغيل الأطفال بالتعقد من حيث حجمها ومدى انتشارها، إضافة إلى بعدها الاجتماعي؛ إذ لا ترتبط بالطفل في حد ذاته، بل تتعداه لتشمل محيطه الأسري والاجتماعي؛ فالجواب عن سؤال لماذا يشتغل الطفل؟ سيكون حتما لأن أسرته تعاني ظروفا اقتصادية تستدعي الاعتماد على المدخول الإضافي الذي يوفره عمل الطفل، وليس لأن الطفل هو من يريد الاشتغال. وبالتالي، فهي تدخل ضمن الظواهر المتعددة الأبعاد والتي لا يكمن علاجها في الطفل، بل في محيطه الأسري قبل كل شيء. وتعرف مدينة الجديدة كباقي المدن المغربية انتشار ظاهرة تشغيل الأطفال، بشكل كبير، وإن كان من الصعب تحديد مداها وقياس حجمها الحقيقي، في ظل غياب الإحصائيات الرسمية، خصوصا مع سيادة الشغل المتخفي في المنازل والأوراش الصناعية، إضافة إلى الطابع السياحي للمدينة، والذي يعرف ازدهار فرص الشغل غير المهيكل بالنسبة لجميع الفئات العمرية بما فيها الأطفال.
حدود الدراسة
تتنوع مظاهر تشغيل الأطفال وتختلف حسب مكان العمل وزمانه، وقد دفع تعقدها إلى جعل هذه الدراسة قسرا على الأطفال العاملين بالشارع، وتوصلنا إلى تصنيف عملهم إلى صنفين رئيسيين: العمل العائلي، غير مأجور في الغالب ما دام يتم في إطار وحدة الإنتاج العائلية؛ والعمل المأجور، وينقسم بدوره إلى قسمين: الاشتغال مع الأغيار ويقوم على أساس قوة العمل مقابل أجر، أو على أساس قوة العمل مقابل التعلّم؛ ثم العمل المستقل، والذي يقوم على أساس إنشاء وحدة إنتاج غير مهيكلة خاصة بالطفل. أما حدودها الزمنية فقد اقتصرت على صيف سنة (2019)، وهذا ما يجعلها غير معبرة عن الدينامية السنوية لتشغيل الأطفال.
إشكالية الدراسة
تتمحور إشكالية هذا العمل حول ظاهرة تشغيل الأطفال في بعديها الاجتماعي والاقتصادي، وتتفرع منها مجموعة من الأسئلة الفرعية من بينها: ما هي الدوافع وراء مغادرة الأطفال في سن التمدرس مقاعد الدراسة، ليلجوا سوق الشغل غير المهيكل؟ ما هي التأثيرات السلبية للعمل على شخصية الطفل؟ كيف يتشكل وعي الطفل وإدراكه للعالم خارج جو المدرسة؟ كيف يتأثر الأطفال المتمدرسون بوجود زميل لهم يشتغل؟ وكيف ينظرون إليه؟ كيف يتأقلم الطفل العامل مع إغراء المال؟ وكيف ينساق لسلطته حتى يفقد معنى طفولته قبل الأوان؟ كيف يوفّق الطفل العامل بين تناقضات عالمه الطفولي وعالم الكبار، بحكم الاحتكاك في العمل؟ كيف يساهم الوالدان في استقطاب أبنائهم إلى سوق الشغل؟ ما هي السبل الكفيلة بإعادة تأهيل الأطفال العاملين وإدماجهم اجتماعيا؟ وإذا كان الطفل يُحرم من التعلم لأنه يشتغل، ألا يمكن القول بإقصائه بطريقة اقتصادية؟
أهداف الدراسة
تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة إشكالية عمل الأطفال ومحاولة الإجابة على الأسئلة المرتبطة بها، بغية تكوين تصور واضح عن وضعية الأطفال المشتغلين، وضبط الآليات المتحكمة في سيرورة انتقالهم من المدرسة إلى العمل، ثم الوقوف على الأسباب والدوافع المؤدية إلى هذا الانتقال. وذلك من خلال الدراسة الميدانية لتجليات الظاهرة بمدينة الجديدة، على مستويات متعددة: الطفل العامل، الاطفال المحيطين به في الحي وفي المدرسة، ثم الأسرة والمحيط العائلي؛ وفي أماكن مختلفة: الشارع، المدرسة، ثم البيت.
منهجية العمل
تتأسّس منهجية العمل على استعمال مختلف مناهج العلوم الإنسانية لمقاربة ظاهرة معقدة ومركبة، بحكم اندراجها في خانة الاقتصاد غير المهيكل؛ إذ تتخذ أبعادا متنوعة؛ سياسية، اجتماعية، اقتصادية، نفسية، ومجالية. وهذا ما لا يمكن فهمه وتفسيره، إلا من خلال مناهج وتقنيات خاصة (أنظر: عزيز قشاني، حسن مزين، 2019) للإحاطة بالتناقضات التي ينبني عليها الاقتصاد غير المهيكل، في علاقته بالتشغيل غير المهيكل، ثم بالهدر المدرسي وتشغيل الأطفال بالمجال الحضري. وقد اعتمدنا تقنية الانغماس (Technique d’immersion) في الميدان، ومراقبة الأطفال المشتغلين بطريقة غير مباشرة للتعرف على حياتهم اليومية في أدق تفاصيلها، مستعملين عدة أدوات من بينها: الملاحظة، المقابلات الشفوية، الاستطلاعات/ المقابلات الموجهة. وقد توصلنا إلى استحالة العمل بالاستمارة ذات الأسئلة الشاملة، نظرا لطبيعة مجتمع البحث المتميز بالتنوع والاختلاف، وصعوبة ضبط عدد الأطفال المشتغلين في نفس الوقت، وغياب إمكانية التحدث إليهم مطولا.
من هذا المنطلق، تم تقسيم منهجية العمل إلى منهجيات متنوعة حسب سياق السؤال، ولم يتم الاعتماد على استمارة مكتوبة، بل اقتصرت على مقابلات موجهة، لكل منها منهجيتها الخاصة وعينة بحث خاصة. لكنها في العموم تقوم على اختلاق وضعيات اجتماعية أثناء تجولنا بين العاملين باعتبارنا متسوقين كسائر الزبناء، دون تقديم هويتنا أو التصريح بهدف المقابلة، وذلك ضمانا للحيادية والتلقائية في الأجوبة. وقد تم الاعتماد على المنهجيات التالية:
بالنسبة لعدد الأطفال المشتغلين، فقد تم إحصاؤهم في أوقات متباينة طيلة فصل الصيف لسنة (2019)، بطريقة تراكمية حسب التقسيم الجزئي لمجال الدراسة، وبلغ مجموعهم (1086) يتوزعون مجاليا على ثلاث تجمعات رئيسية للأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة: مركز المدينة؛ حي لالة زهراء؛ وحي السعادة. وتم تقسيمهم حسب نوع العمل عن طريق الملاحظة؛ حيث تم استنتاج العمال المستقلين من خلال توفرهم على وحدة إنتاج يديرونها بشكل فردي. وتم الفصيل في وضعية بقية الأطفال الذين يشتغلون رفقة أشخاص بالغين، من خلال اختلاق وضعيات اجتماعية لطرح السؤال المرتبط بطبيعة العلاقة التي تجمع الطفل بصاحب المقاولة، وهكذا صنفناهم إلى الذين يعملون في إطار المساعدة العائلية، والذين يشتغلون بمقابل مادي أو تعليمي؛
بالنسبة لطبيعة العمل (دائم أو مؤقت)، ومدى الخضوع لمراقبة الوالدين (الاستئذان قبل الخروج، مراقبة وقت الدخول إلى المنزل ليلا)، فقد تم جمعها لتكون محور مقابلة خاصة استطعنا استجواب (136) طفلا عاملا في الشارع يتوزعون على مختلف أنواع التشغيل؛
بالنسبة للأسئلة المرتبطة بالإدمان على التدخين، ونسبة الرضى عن العمل فقد كانت محور مقابلات خاصة شملت (42) طفلا؛
بالنسبة لأسئلة المرتبطة بتحديد موقف الزملاء من التلميذ العامل، فقد رافقنا أربع (4) تلاميذ بمستويات مختلفة إلى أقسامهم حيث يدرسون؛ إثنان منهم في المستوى الابتدائي، أحدهما بالمدينة والآخر بالمجال الريفي، وتلميذ بالمستوى الإعدادي، وآخر بالمستوى الثانوي بالمدينة، وقد استطعنا الحصول على رأي (150) من زملائهم في القسم؛
وقد تطلبت منا معالجة كل محور من أسئلة المقابلات الشفوية، التنقل عبر الأحياء الثلاث بغرض ضمان تمثيلية الأطفال العاملين في كل حي، وذلك نظرا لاختلاف الظروف الخاصة بكل منها.
مناهج الدراسة وأدوات جمع المعلومات والبيانات
نظرا لتميز الظاهرة قيد الدراسة بخصائص تجعل منها شديدة التعقيد والتركيب، فقد اعتمدت هذه الدراسة على مناهج متنوعة من أهمها المنهج الإتنوغرافي، للغوص في السيرة الخاصة بكل طفل عامل بحثا عن العوامل المفسرة لوضعه في الشارع، ثم المنهج الوصفي التحليلي لتفسير النتائج الكمية. إضافة إلى التقنيات المشار إليها سالفا لجمع البيانات والمعلومات، اعتمدنا على المقابلات الموجهة والمتمحورة حول سؤال معين، يتم توجيهه لأفراد من مجتمع البحث.
أما بالنسبة لعينة البحث، فلم تخضع في اختيارها لأي تنظيم؛ حيث يبقى المعيار الوحيد في اختيار المفردات هو قابلية المستَجوَب للحديث والتجاوب مع الباحث، في مراعاة تامة لظروف الطفل الخاصة. وهاته الظروف فرضت أن يكون لكل محور من الأسئلة عينة بحثه الخاصة.
تقديم مجال الدراسة :
تمحورت الدراسة حول ظاهرة تشغيل الأطفال بمدينة الجديدة، وهي مدينة ساحلية تتميز بموقع يتيح لها الانفتاح على باقي المدن جهويا ووطنيا؛ إذ تبعد عن مدينة الدار البيضاء بحوالي (100 كلم) وعن مدينة الرباط ب (200 كلم) وعن مدينة مراكش بأقل من (300 كلم). وقد عرفت دينامية حضرية لا يمكن فصل معالمها الكبرى عن السياق الوطني العام، سواء من حيث وتيرة التزايد الديمغرافي، أو طبيعة التوسع العمراني، أو أهمية التطور الاقتصادي، وهذا ما أدى إلى وضع إشكالي مشابه لوضعية جل المدن المغربية، يمكن تشخيص مميزاته فيما يلي:
نمو ديمغرافي، ورغم التفاوتات، ينحو في ديناميته العامة نحو الارتباط بالسياقات الوطنية؛ إذ بلغ عدد سكانها سنة (1952) حوالي (34781) نسمة، نتيجة تزايد أهمية الأنشطة الاقتصادية بالمدينة واستقرار الأوضاع السياسية بعد سيطرة فرنسا على التراب الوطني. واستمرت هذه الدينامية في التزايد إلى حدود سنة (1994)، حيث بلغ عدد السكان (119566) نسمة، بنسبة نمو سنوي وصلت إلى (3.3 %). ثم انتقل ليصل إلى (419 143نسمة) سنة (2004) وواصل الارتفاع وصولا إلى (194934) نسمة سنة (2014). وهذا راجع إلى التحولات التي شهدتها مدينة الجديدة وجعلت منها مركزا لانتشار أنشطة القطاع غير المهيكل، خاصة خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وهكذا، تضاعف عدد السكان ما بين سنتي 1960 (40302 نسمة)، و1982 (81455 ن)، وتزايد بأكثر من (38 ألف) نسمة خلال العشرية الموالية ليستقر في (119566 ن) وتجاوز (140 ألف) نسمة خلال إحصاء (2004)، لتتجاوز (194000) حسب إحصاء (2014).
الخريطة رقم 1: موقع مدينة الجديدة جهويا ووطنيا
المصدر : عمل الباحثين
لم يكن هذا التزايد السكاني نتيجة الزيادة الطبيعية للساكنة المحلية فقط، وإنما كان للهجرة نصيب فيه؛ حيث انتقل عدد المهاجرين من (7456) ما بين (1960 و 1970) إلى (32482) ما بين (1971 و1982)، ليواصل وتيرة الارتفاع في السنوات الموالية ارتباطا بتواتر سنوات الجفاف، وبتداعيات برنامج التقويم الهيكلي (PAS). وقد تأكد هذا التواجد المهم للمهاجرين من خلال نتائج الإحصاء العام للسكان سنة (2014)؛ إذ وصلت نسبة أرباب الأسر المنحدرين من خارج المدينة (35 %) من مجموع الأسر.
وكان من الطبيعي أن يتزامن تزايد السكان مع ارتفاع رقعة المجال المبني، وهذا ما أفرز عمليات توسيع للمدار الحضري على فترات متوالية ارتباطا بعدة عوامل، يبقى السكن من أهم هواجسها؛ حيث انتقلت مساحة المجال المبني من (95) هكتار في حدود سنة (1928) إلى (209) هكتار سنة (1965)، واستمرت في الارتفاع لتحقق (312 ه) سنة (1980)، وتصل إلى (1166) هكتار حسب التصميم الحضري الحالي.
يُلاحظ أن هذا التوسع تم على حساب أراض فلاحية مملوكة ومأهولة، مُحدثا بذلك تغيّرات عميقة على بنية المجتمعات المحلية، مست عنصريها الأساسيين: الأرض والإنسان؛ فالأولى فقدت دورها كأداة إنتاج تتمحور حولها حياة الفلاح وأسرته. وتحول الثاني من فلاح يعيش وفق نمط يرتضيه إلى فرد فاقد للهوية؛ ذلك أن هذا الانتقال من “دوار” إلى “حي هامشي”، أفرز فئتين من الساكنة: فئة مستفيدة من بيع الأراضي بأثمان جد مرتفعة، فعاشت تحولا من الفقر إلى الغنى، ولم تستطع التكيف مع الوضعية الجديدة؛ وفئة غير المستفيدين من بيع الأراضي، والتي فقدت مقومات العيش الريفي دون أن تكتسب آليات الاندماج في نمط العيش الحضري، وبالتالي، فقدت كلتا الفئتين هويتها الأصلية. يتأكد هذا الطرح مشهديا من خلال توزيع الدواوير الهامشية على شكل حزام يُطوّق المدينة من جميع الجهات البرية، من جهة، وسوسيو-اقتصاديا من خلال الانتشار الكثيف لمظاهر الترييف والعشوائية في بنية المدينة، من جهة أخرى.
إضافة إلى التزايد الديمغرافي والتوسع الحضري، عرفت مدينة الجديدة نموا اقتصاديا ملحوظا، لا يمكن قياسه بزيادة عدد الوحدات الصناعية من (28) وحدة سنة (1985) إلى (159) سنة (2006)، وإنما بتظافر مجموعة من العوامل من بينها أهمية المركب الصناعي للجرف الأصفر، وما يرتبط به من مناطق صناعية، مع ما تتيحه من إمكانات على مستوى التشغيل، أو على مستوى جلب المزيد من اليد العاملة أملا في الظفر بمنصب شغل قار. وبما أن توظيفات مركب الجرف الأصفر لم تشمل الساكنة المحلية فقط –بل شكلت جزءا يسيرا نظرا لعدة أسباب، يبقى غياب التكوين المناسب من أهمها- ولم تكن كافية لاستيعاب كل العمالة النشيطة التي تراكمت بالمدينة، لذلك ساهم الاقتصاد غير المهيكل في هذا النمو بشكل كبير، وذلك من خلال قدرته على استيعاب الفائض من اليد العاملة النشيطة. وبالتالي، تحقيق ما عجز الاقتصاد المنظم عن تحقيقه؛ أي التخفيف نسبيا من حدة الفقر والبطالة بالمدينة ومحيطها. وهذا ما يفسر الانتشار المجالي الكبير للاقتصاد غير المهيكل بالمجال الحضري خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي واستمرارها في التزايد إلى وقتنا الحالي.
يمكن الخروج بخلاصة أساسية حول مجال الدراسة، تتمحور حول وجود هوة كبيرة (Décalage) بين تطور البنى الاقتصادية، من جهة، وتزايد الساكنة وخاصة النشيطة منها، من جهة أخرى. وهذا ما يطرح الاقتصاد غير المهيكل كبديل لا مناص منه، بالنسبة للفئات التي لم تستطع الاندماج في الاقتصاد المنظم لأي سبب من الأسباب. فما هي الانعكاسات المحتملة لهذا الوضع؟ وهل هناك علاقة بين انتشار الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة و التمدن العشوائي؟ ثم من منهما ينتج الآخر؟ وكيف يؤثر هذا الوضع المأزوم على حياة الأطفال ومستقبلهم الدراسي بالمدينة؟ ثم كيف سيتعامل الجيل الجديد من الأطفال مع الاقتصاد غير المهيكل بعد نشأتهم على اشتغال آبائهم فيه؟
مساهمة الأطفال في دخل الأسرة من خلال العمل في وحدة الإنتاج العائلية
يلعب الطفل العامل دورا حاسما في تحسين دخل أسرته، وقد يكون عمله عنصرا أساسيا في استمرار الأسرة مجتمعة في بعض الحالات؛ لأن أغلب الأسر لا تدفع بأبنائها إلى العمل إلا في حالة تعسُّر ظروفها الاقتصادية. وبالتالي، يكون عمل الطفل ذا أهمية في خلق مداخيل جديدة، أو توفير قوة عمل مجانية لمقاولة الأسرة. وفي حالات أخرى، تصل الأسرة إلى حافة الانهيار والتفكك بسبب الفقر والعجز عن ضمان لقمة العيش، فيغدو الطفل المنقذَ الوحيد للأسرة بأكملها، وبالتالي، لا خيار أمامه سوى الخروج إلى الشارع حيث يثابر كالعمال البالغين من أجل الظفر بفرصة عمل تقيه وأسرته الجوع والتشرد.
الشكل 1: التوزيع المجالي لعمالة الأطفال بمدينة الجديدة حسب طبيعة العمل
المصدر : نتائج البحث الميداني 2019
يتبين من خلال ملاحظة معطيات الدراسة الميدانية أن مركز المدينة يستأثر بأغلبية الأطفال العاملين، بنسبة (55 %) من مجموع العاملين البالغ عددهم (1086) طفل في حالة عمل. يليها حي لالة زهراء بنسبة (29 %) ثم حي السعادة بنسبة لا تتجاوز (16 %) من مجموع الأطفال العاملين. أما من حيث طبيعة العمل، فنلاحظ أن العمل العائلي يشغل (39 %) من الأطفال، في حين يشغل العمل المأجور (29 %) منهم، مقابل (32 %) من الأطفال يشتغلون بشكل مستقل.
يعكس التوزيع المجالي لعمالة الأطفال بمدينة الجديدة هيمنة مركز المدينة والشاطئ، وذلك، نظرا لما يوفراه من جاذبية اقتصادية، إضافة إلى تمركز عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية سواء المنظمة منها أم غير المهيكلة، وكثافة التيارات البشرية ارتباطا بالدينامية غير العادية لفصل الصيف، وهذا ما يبرر تمركز أغلبية الأطفال العاملين بمركز المدينة. وقد توزعت هذه العمالة حسب صنف العمل كما يلي: بالمركز (39 %) عمل عائلي، (26 %) عمل مأجور، ثم (35 %) عمل مستقل ؛ بحي لالة زهراء (40 و32 ثم 28 % لكل صنف بالترتيب)؛ وحي السعادة (38 و 35 ثم 27 %).
المساهمة المباشرة للأطفال في دخل الأسرة عن طريق العمل العائلي
تتجلى مساهمة الطفل المباشرة في عمل الأسرة من خلال انخراطه المباشر في نفس وحدة الإنتاج العائلية والتي تكون إما بغرض توسيع النشاط الاقتصادي، وبالتالي ربح القيمة المضافة لليد العاملة دون خصم ثمنها، أو نتيجة لعجز رب الأسرة عن الاستمرار في العمل بمفرده، مما يضطره إلى الاستعانة بأحد أبنائه حيث يقوم بالأعمال المتعبة كمساعد ويتعلم أصول الحرفة في نفس الوقت لضمان الانتقال إلى تحمل مسؤولية الأسرة فيما بعد.
ينقسم عمل الأطفال من حيث علاقته بالأسرة إلى صنفين: العمل المباشر في وحدة الإنتاج العائلية كمساعد لأحد الوالدين دون مقابل، أو العمل المأجور خارج نفوذ الأسرة والمساهمة بأجرة عمله كلها أو بجزء منها في ميزانية الأسرة. وقد تأكد دور الأطفال من خلال دراسة الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة بمدينة الجديدة؛ حيث صرح أكثر من (26 %) من العمال المستجوبين والذين يتوفرون على أبناء بأنهم يستعينون بأولادهم في العمل، فيما النسبة المتبقية لا تقطن أصلا مع الأبناء في نفس المدينة، ولذلك فإنهم يُشغِّلون أبناءهم في الأعمال المنزلية أو الفلاحية، كما أن (42) منهم يشغّلون ابنا أو اثنين دون سن الخامسة عشرة. من جهة أخرى، نجد أن (6.4) من العمال المستجوبين اشتغلوا في طفولتهم أعمالا عائلية أو مأجورة، وهذا ما يؤكد دور الأسرة في التشجيع على تشغيل الأطفال بغض النظر عن النتائج المحتملة.
تنتشر هذه الظاهرة بكثرة، خصوصا في فصل الصيف، نظرا لارتباطه برواج اقتصادي ملحوظ، يدفع بالأسر المشتغلة في القطاع غير المهيكل إلى توسيع أنشطتها أو خلق أنشطة جديدة، من جهة، وبعطلة الصيف، من جهة أخرى، مما يشجع على تشغيل الأطفال موسميا. غير أن هذا الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، وقد يكون سببا مباشرا في تقاعس الطفل عن الدراسة والإلتحاق بالعمل الدائم، كما يتبين من خلال نسبة العمال الذين وصلوا إلى الشغل غير المهيكل بالوراثة (4.3 %)؛ أي أنهم بدؤوا كمساعدين لوالديهم وانتهوا وارثين للمقاولة العائلية بكل مسؤولياتها بعد وفاة الوالد أو عجزه التام عن العمل.
المصدر: نتائج البحث الميداني 2019
يتبين من خلال معطيات توزيع عمالة الأطفال بمدينة الجديدة، انتشار هذه الظاهرة في جميع الأحياء التي تعرف تواجد أنشطة الاقتصاد غير المهيكل؛ حيث فاق عدد الأطفال في حالة عمل عائلي (425) طفلا، (55 %) منهم في مركز المدينة و(30 و 15 %) في كل من لالة زهراء والسعادة. يتوزعون على جميع الأنشطة الاقتصادية تقريبا، لكن مع وجود تفاوتات بين الأحياء؛ حيث نلاحظ تركزا كبيرا للعمل العائلي بالوحدات المرتبطة بفصل الصيف، كوحدات شَيِّ السردين مثلا، والمأكولات عموما في مركز المدينة. بينما تهيمن محلات بيع الملابس المستعملة والجديدة، ووحدات بيع الخضر والفواكه على عمل الأطفال في السعادة ولالة زهراء. يتعلق الأمر في حالة العمل العائلي بوجود حاجة إلى يد عاملة إضافية لدى العاملين في القطاع غير المهيكل، حيث يزداد الطلب صيفا، مما يستدعي الاستعانة بالزوجة والأبناء ضمانا لهامش ربح أكبر.
صحيح أن أغلب الأطفال يضطرون إلى العمل العائلي تحت ضغط الحاجة باختلاف درجاتها؛ فمنهم من يساهم في استمرار النشاط المزاول من طرف أحد الوالدين، ومنهم من يُسيِّر نشاطا جديدا خُلِق من أجله لتسييره تحت إشراف وحماية الوالد. لكن هناك فئة أخرى من الأطفال تضطر للتواجد في مكان العمل فقط تلبية لرغبة الوالد في شغله بأقل تكلفة، نظرا لانعدام البدائل التي من شأنها إلهاء الطفل وشغل فراغه. فالتخوف من انحراف الطفل نتيجة قضاء وقت طويل بالشارع رفقة أقرانه، يدفع بالأب إلى حبس ابنه بجانبه في العمل، حتى إن لم يكن في حاجة لمساعدته عمليا؛ لأنه في نفس الوقت يهيئه لتقبل العمل وتفضيله عن متع العطلة والصيف. وهذا ما ينفي فرضية ارتباط تشغيل الأطفال بالفقر والحاجة الماسة إلى ما قد يوفره من مداخيل إضافية لميزانية الأسرة، كعامل وحيد. ويؤكد حضور البعد الثقافي والاجتماعي في التطبيع مع ظاهرة تشغيل الأطفال، واعتبار العمل فضيلة يجب أن يتحلى بها الطفل كي يتجنب الانحراف، فإلى أي حد ستساهم مثل هذه الأفكار في ترسيخ الحرمان لدى الطفولة من الحق في التمتع بوقت الفراغ ؟
العمل المأجور والمساهمة في دخل الأسرة
يمكن الحديث في هذا الصدد عن المساهمة المادية للطفل في ميزانية الأسرة عن طريق العمل خارج دائرتها؛ حيث يُنشئ وحدة خاصة به أو ينخرط في العمل المأجور لدى عمال أكبر منه سنا، فيساهم بمدخوله في ميزانية الأسرة، كما قد يتحملها بمفرده في بعض الأحيان. وقد توصلنا خلال البحث الميداني إلى إحصاء (317) طفل في حالة عمل مأجور، يستقر نصفهم بمركز المدينة، فيما يأوي حي لالة زهراء (32 %) منهم وحي السعادة (18 %). إضافة إلى ذلك، تم إحصاء (345) طفل في حالة عمل ذاتي؛ أي أنهم يتوفرون على وحدات إنتاج خاصة، يتركز (61 %) منهم في مركز المدينة وشاطئ البحر، و(26 %) فيما البقية تتوزع بين حيي السعادة ولالة زهراء بنسبة ( 26 و 13 %) على التوالي.
المصدر : نتائج البحث الميداني 2019
تتنوع الوضعية المهنية للأطفال العاملين، بين المتعلمين الذين يتقاضون أجورا زهيدة أسبوعيا، والعاملين الذين يقومون بعملهم دون حاجة إلى تدخل المُشغِّل لتعليمهم، وينعكس هذا الوضع على أجورهم المرتفعة مقارنة بالفئة السالفة الذكر. ويعملون في الغالب لدى تجار الملابس بمختلف أنواعها، ووحدات بيع المأكولات سواء المستقرة أم المتنقلة، كما يقومون بالإشراف على الأنشطة الثانوية لأصحاب المحلات كتشغيل آلة صنع المثلجات، أو بيع سلع المحل في الشارع مقابل نصيب من الربح، كما يشتغلون مساعدين لباعة الخضر والفواكه، وعموم الأنشطة التي تتطلب يدا عاملة إضافية في بعض الفترات. أما العمال الذاتيون، فأزيد من (70 %) منهم يزاولون بعض الأنشطة التجارية الصغيرة والمرتبطة بالسياحة، مثل بيع المثلجات والمناديل الورقية والسجائر والحلويات ولعب الأطفال وغيرها، فيما البقية تنشئ وحدات صغيرة لبيع الخضر والفواكه والسمك.
تؤشر وضعية هذه الفئة من الأطفال على هشاشة الوضع الاقتصادي لأسرهم؛ إذ يزيد العمل بعيدا عن الأسرة من إمكانية تعرض الطفل للمخاطر والاعتداءات المرتبطة بطبيعة مجال العمل؛ أي الشارع. وهذا ما يفسر وضعية الحاجة التي تدفع بالوالدين إلى الموافقة على تشغيل أبنائهم بعيدا عن أعينهم، كما هو الشأن بالنسبة للأطفال الوافدين من خارج المدينة، والذين يتدبرون أمور إقامتهم ومعيشتهم داخل المدينة بشكل مستقل عن الوالدين. ويعتبر الفقر دافعا أساسيا لتواجدهم في هذا الوضع؛ حيث يكافحون من أجل إعالة أسرهم أو التكفل بنفقاتهم ومصاريفهم الخاصة، حيث تم إحصاء ما يزيد عن (43) طفل يزاولون أنشطة متنوعة كبيع السجائر والمثلجات، بغرض توفير مصاريف الموسم الدراسي من لباس وغيره. وبالتالي، فهم يتمتعون بنوع من الاستقلالية المالية عن الأسرة، بطريقة مفروضة تحت إكراه الحاجة إلى إعالة الفرد ذاتيا نتيجة فقر الوالدين.
تنتشر عمالة الأطفال في جل الأحياء، وإن بشكل متفاوت؛ حيث يتركز أكبر عدد من الأطفال العاملين الذاتيين أو المأجورين بمركز المدينة، وذلك نظرا لتوافر عدة أسباب، من بينها كون المركز يعرف رواجا اقتصاديا يفوق باقي الأحياء مما يوفر إمكانية نجاح العامل في ضمان مدخول يومي محترم. كما أن هناك فئات العمال الوافدين من خارج المدينة، والذين لا يعرفون غير المركز والشاطئ. أغلب هؤلاء الأطفال جاؤوا من البوادي والمراكز المجاورة للمدينة أو من مدن أخرى، كاليوسفية والفقيه بن صالح وواد زم وعموم المدن الداخلية، حيث يعتبرون العمل بمدينة ساحلية جزءا من السياحة. ولهذا السبب يمارس الأطفال حين عودتهم إلى منازلهم نوعا من الإغراء على المحيط، مما يدفع بالمقربين منهم إلى مرافقتهم في السنة الموالية، وهذا ما يجعل عددهم في تزايد مستمر. أما باقي الأحياء فتعرف حضورا أقل كثافة لعمالة الأطفال، وذلك نظرا لارتباط هذا النوع من العمل بأبناء الحي الذين لا يرغب أباؤهم في خروجهم عن دائرة مراقبتهم، أو أبناء بعض المزاولين المستقرين عمليا في هاته الأحياء.
تختلف طبيعة عمل الأطفال من حيث الاستمرارية وتنقسم إلى عمل موسمي (58 %) وآخر دائم (42 %)؛ فالعمل الموسمي يعبر عن وضعية مريحة نسبيا للطفل العامل إذ بإمكانه التوقف عن العمل لفترة قد تطول أو تقصر دون أن تصبح حياته مهددة؛ يعني أن بإمكانه الاختيار بين العمل أو عدمه ولو لفترة محدودة، وهذا الخيار يعني أنه يجني مبلغا من المال نتيجة عمله لفترة معينة، ويرتاح من العمل حتى يكمل صرفه، ثم يعود إلى العمل في مناسبة أخرى مغيرا نشاطه حسب ما تتطلبه المناسبة، إن كان منقطعا عن الدراسة، أما إن كان لا يزال مرتبطا بالمدرسة، فإن مناسبات العمل تتحدد بمواعيد العطل المدرسية. أما العمال الدائمون، فهم غالبا ما يعانون وأسرهم وضعا اقتصاديا لا يسمح لهم بإمكانية الاستمرار في العيش بدون عمل؛ لذلك يضطر بعضهم إلى العمل طوال السنة وتحت جميع الظروف، ومنهم من يستمر في الدراسة والعمل (حولي 30 طفلا تم استجوابهم ما زالوا يدرسون) معا رغم صعوبة التوفيق بينهما.
يؤشر عمل الأطفال بشكل مستقل أو غير مستقل -كمساعد أو كمتعلم- على هشاشة الوضع الاقتصادي للأسر، كما يؤشر على الانتقال الاجتماعي للطفل من وضعية الوصاية المفروضة عليه من الأسرة إلى وضعية الاستقلالية وتحمل مسؤولية هذه الأسرة، في الآن ذاته. فما هي الانعكاسات المحتملة لهذا الانتقال على شخصية الطفل في حاضره مستقبله؟ وإذا ما أخذنا تعريف الأعمال الخطيرة بعين الاعتبار، ألا يمكن إدراج كل الأعمال التي يزاولها الطفل بعيدا عن الأسرة خطيرة بغض النظر عن طبيعتها الذاتية، ما دامت في النهاية تجعل هذا الطفل عرضة لكل المخاطر والأضرار النفسية والجسدية؟
الأعمال التي يزاولها الأطفال متنوعة لكنها لا تخرج عن دائرة الخطورة
تتنوع الأعمال التي يمارسها الأطفال في شوارع المدينة بين العمل العائلي والعمل المأجور ثم العمل المستقل، ولكل صنف من هذه الأعمال خصائصه ومميزاته، سواء من حيث حجم وحدة الإنتاج وظروف العمل بها، أم من حيث آثارها على الطفل العامل. وقد تبين من خلال الملاحظة الميدانية ارتباط العمل العائلي كما المأجور بوحدات الإنتاج التي تستطيع تشغيل أكثر من عامل، وهذا ما يفسر استعانة أصحابها بعمالة إضافية قد تكون من الأبناء أو المُستخدمين. في حين، يرتبط العمل المستقل بوحدات إنتاج جد صغيرة لا يتعدى رأسمالها مئات الدراهم، وهذا ما سينعكس على وضعية العامل المالية وظروف العمل. أما الآثار المترتبة على هذا الوضع بالنسبة للعامل فنلاحظ أن ظروف العامل العائلي أقل خطورة على الطفل العامل نظرا لتمتعه بحماية الوالد واستفادته من التعاطف والرعاية.
المصدر: العمل الميداني 2019
نستنتج مما سبق أن ظاهرة تشغيل الأطفال، تهم كل التجمعات التجارية المنتشرة بشوارع المدينة؛ حيث تنتشر مختلف أصناف عمل الأطفال في علاقة وثيقة بالقطاع غير المهيكل والأنشطة المزاولة في إطاره. وإذا ما استثنينا نسبة العمل المستقل، فإننا بصدد (68 %) من الأطفال العاملين يشتغلون في القطاع غير المهيكل سواء كعمال مأجورين أو غير مأجورين في إطار العمل العائلي، وهذا ما يؤكد الدور الكبير الذي تلعبه أنشطة الاقتصاد غير المهيكل في استقطاب الأطفال واستغلالهم، وبالتالي تحويلهم إلى عمال مرسمين في سوق الشغل غير المهيكل، على اعتبار أنهم غير قادرين على الولوج المباشر عن طريق إنشاء وحدات إنتاج خاصة كما فعل الأطفال الآخرون، فكيف سينعكس العمل مع ما يرتبط به من تحرر على شخصية الطفل؟ وكيف سينتقل إلى محيطه القريب من الأطفال؟
تأثير المال على تكوين شخصية الطفل والمحيطين به
بالرغم من اختلاف أصنافه، يبقى عمل الأطفال وسيلة لربح المال -حتى وإن لم يكن هدفا في حد ذاته كما هو شأن العمل العائلي- وبالتالي، حرية التصرف فيه كيفما وأينما شاء خارج حدود المراقبة والسلطة الأبويين، وهذا الوضع لا يتمتع به عادة عموم الأطفال، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الأسرة. وبما أن الطفل العامل سيحتك حتما ببقية أقرانه من الأطفال غير العاملين سواء في المدرسة أم في الحي والعائلة، فإنه سيؤثر فيهم ويتأثر بنظرتهم إليه على اعتبار تفوقه عليهم بسلطة المال. فما هي التأثيرات المحتملة لهذه السلطة على تكوين شخصية الطفل العامل؟ وما هي تأثيراته على الأطفال المحيطين بالطفل العامل؟ وكيف ينظرون إليه؟ وبالتالي، كيف يساهم في تأسيس تمثلاتهم حول الدراسة وحول الشغل؟
التحرر من سلطة الوالدين
يعتبر التحرر من سلطة الوالدين والأسرة من أول الأعراض الجانبية لظاهرة تشغيل الأطفال؛ حيث يساهم العمل في خلق نوع من التحرر لدى الطفل قد تكون له عواقب سلبية على سلامته الجسدية والنفسية. وهذا ما تؤكده تصريحات الأطفال المستجوبين؛ إذ أكد أكثر من (87 %) منهم بأنهم لا يحتاجون إلى استئذان الوالدين قبل الخروج من المنزل، وأجاب ما يفوق (79 %) منهم بأنهم لا يُحاسبون من طرف الأسرة عن وقت العودة إلى المنزل ليلا. هذا التحرر في الدخول والخروج من المنزل رافقه تخلي الأسرة عن مراقبة طفلها العامل في محيطه الخارجي؛ أي أنها لم تعد تتحكم في اختيار أصدقائه وإبداء الرأي في سلوكهم، وبالتالي، تتضاعف احتمالات سقوطه ضحية للانحراف والإدمان.
اندماج غير مراقب في بنية الكبار
بعيدا عن سلطة الأسرة وحمايتها، يحاول الأطفال العاملون الاندماج في منظومة الشارع إلى جانب البالغين بمختلف أصنافهم؛ حيث سلطة القوي على الضعيف قد تصل حد استباحة كرامته وممتلكاته، مما يجعلهم عرضة لشتى المخاطر. أمام هذا الوضع، يضطر الأطفال العاملون إلى خلق استراتيجيات خاصة للاندماج في بنية الكبار، غير أن غياب التوجيه يجعلهم يعتمدون استراتيجية تقليد انحراف الكبار من أولى خططهم، لاعتقادهم بأن الانحراف بمختلف أشكاله من تدخينٍ وسكرٍ وإيذاءٍ للجسد بآلات حادة، قد يكون سبيلا رادعا لاعتداءات الغير والتأقلم مع قساوة الشارع وظروف العمل فيه.
في الواقع، لا يتحمل الطفل العامل مسؤولية الحفاظ على سلعته ووسائل عمله فقط، بل يتجاوزها إلى مسؤولية حماية جسده من الاعتداءات المحتملة نتيجة الطمع في ممتلكاته من طرف الأطفال الأكبر منه سنا أو الأكثر تمرُّسا بالشارع، وبما أن تمثلات العاملين في الشارع تقوم على احتقار الجانب الطفولي في شخصية العامل واعتبار المحافظ على أخلاقه “ولد دراهم”، فإن الأخير يضطر إلى تبني سلوكياتهم المنحرفة للتعبير عن نضجه واستحقاقه للقب “ولد الشارع” بما يحمله من معاني الرجولة، وبالتالي، التخلص من عقدة النقص المتمثلة في براءة الطفولة. إضافة إلى ذلك، هناك الإغراء الذي يمارس على الطفل بطريقة غير مباشرة من خلال معاشرته للأطفال الأكبر منه سنا والبالغين أيضا؛ حيث يتأثر بسلوكهم المنحرف من باب التقليد، وفي غياب الرادع الأسري يصبح ضحية سهلة لأنواع الإدمان، وقد صرح أكثر من نصف الأطفال العاملين (52.3 %) بأنهم يتعاطون صنفا على الأقل من الدخان والمخدرات.
يتضح إذن أن تشغيل الأطفال يفرض عليهم التواجد بين البالغين والأطفال المتأثرين بحياة الشارع، وبما أنهم غير مؤهلين معرفيا وتربويا وغير متمتعين بالحماية والرقابة الأسريين، فإنهم ينخرطون في سيرورة اندماج غير مراقب (Processus d’intégration non contrôlée) في مجتمع الشارع الذي يسيطر عليه الكبار، ويتميز بخصائص مختلفة تمام الاختلاف عن خصائص الأسرة، وهذا ما يؤثر حتما على شخصية الطفل العامل، فكيف سينعكس ذلك على نمط استهلاكه ونظرة المحيط إليه؟
نمط استهلاك مختلف يؤثر في نظرة المحيط
يختلف نمط استهلاك الأطفال العاملين عن أنماط أقرانهم من غير العاملين، نتيجة لتحررهم من سلطة الأسرة وامتلاكهم لسلطة المال في نفس الوقت. ويمكن تلخيص مظاهر هذا الاختلاف في النقط التالية:
تغيُّر سلوك الطفل العامل واتجاهُه نحو تقليد الكبار؛ حيث يتمتع بحرية اختيار الملبس وكيفية التعامل مع الجسد، سواء تعلق الأمر بنوع تسريحة الشعر أم وضع الرسوم والوشم وغيرها من الأمور التي تُحرّم الأسرة فعلها على الأطفال غير العاملين، وبالتالي فإن العمل يوفر له حرية تحديد مظهره الخارجي بالشكل الذي يريده، وهذا ما قد يتعارض مع الضوابط التي تضعها سلطة الأسرة الرمزية والمادية، لكنها لا تملك القدرة على الفعل في تغييره؛
اختلاف طبيعة الاستهلاك اليومي؛ فبحكم طبيعة العمل وظروفه يضطر الطفل العامل إلى تبني نمط استهلاك يومي أقرب ما يكون إلى نمط استهلاك العمال البالغين، حيث يتغذى خارج المنزل ويجلس في المقهى، وبإمكانه شراء ما يريد دون الحاجة إلى طلب ثمنها من والديه كالأطفال غير العاملين، أو حتى طلب الإذن بذلك؛
التأثير في المحيط من خلال الإغراء الذي يمارسه الطفل العامل على المحيطين به سواء في الأسرة والحي أم في المدرسة بالنسبة للمتمدرسين منهم، رغم قساوة الظروف التي دفعتهم إلى العمل. غير أن نظرة المحيط هاته تتغير بارتفاع مستوى الوعي؛ ذلك أن المحيط الأسري والشارع يعكسان انبهار الأطفال والمراهقين بالطفل العامل، على أساس أنهم لا يأخذون في اعتبارهم سوى تفوّقه عليهم بامتلاك المال والحرية في التصرف فيه. ولتحديد تأثير التلميذ العامل على زملائه في المدرسة، تتبعنا مسار أربعة أطفال عاملين ويتابعون دراستهم في نفس الوقت بمستويات مختلفة كما هو مبين في الشكل أسفله، حيث كانت نظرتهم تختلف باختلاف مستواهم الدراسي .
المصدر : نتائج البحث الميداني صيف 2019
وقد رافقنا كل تلميذ إلى مدرسته واستفسرنا زملاءه في الفصل الدراسي عن نظرتهم إليه وطلبنا منهم تحديد موقفهم من عمله، مع حصر الخيارات في الشفقة عليه أو الغيرة منه، وتوصلنا في المجموع إلى أن (72 %) من التلاميذ يغبطون زميلهم العامل مقابل (28 %) يشفقون عليه. ويخفي هذا المعدل تفاوتات بينية حسب المستويات الدراسية؛ حيث ترتفع نسبة الذين يغبطون زميلهم العامل في صفوف تلاميذ المستوى الابتدائي بمدرسة محاذية لأحد التجمعات التجارية، لتتجاوز (92 %) منهم يغبطون زميلهم العامل، وتقارب (83 %) في مدرسة بعيدة نسبيا عن التجمعات التجارية. فيما تنخفض نسبة هذه النسبة إلى (51 %) بالنسبة لتلاميذ المستوى الثانوي، وهذا ما يبين أن الوعي بظروف العمل وخطورته على الطفل لا يتكون إلا مع التقدم في السن والترقي في المستوى التعليمي؛ حيث لا يدرك الأطفال الصغار في المستوى الابتدائي محنة زميلهم العامل. وبالتالي، فهم يغبطونه على الجزء الظاهر لهم من حياته والمتمثل في سلطة الدراهم التي يملكها فقط، أما تلاميذ المستوي الثانوي، فارتفعت نسبة الذين يتفهمون ظروف زميلهم العامل ويشفقون عليه، وعيا منهم بصعوبة الظروف التي فرضت عليه هذا الوضع؛
يتحول موقف الأسرة من الطفل بعد ولوجه سوق الشغل؛ حيث تُفقِدها الحاجة الاقتصادية قدرتها على التحكم في أفعاله وتوجيه سلوكه، وبالتالي، يصبح أكثر عرضة (Plus vulnérable) للمخاطر؛
تعطي التغيرات التي تطرأ على الوضعية المالية للطفل العامل انطباعا إيجابيا لدى المحيطين به، غير أن نظرته الذاتية إلى نفسه ووضعه الاجتماعي لا تنسجم مع هذا التوجه؛ فقد تبين من خلال سؤال (42) طفلا عن مدى رضاهم عن اختيار العمل أن (93 %) منهم غير راضين عن وضعهم، وأنهم كانوا يفضلون خيارات أخرى لو أُتيحت لهم الفرصة من جديد، وهذا ما يؤكد وضعية الإكراه على العمل لدى أغلب الأطفال في حالة شغل، رغم اختلاف الدوافع الشخصية من طفل لآخر.
يتبين من خلال المعطيات الواردة أعلاه أن عمل الطفل يحدث تغييرات متعددة على نمط عيشه، وعلى سلوكه وشخصيته مما يؤثر في نظرة المحيط إليه. وهذه النظرة تختلف من وسط لآخر؛ حيث تصبح الأسرة رهينة لفضله المادي عليها، فتفقد سلطتها عليه، وبالتالي تفقد دورها في تنشئته وحمايته. أما المحيط القريب من عائلة وجيران، فتتغير نظرتهم إليه بعد اشتغاله، وتتحول إلى إعجاب ينتهي بالترويج له كنموذج ناجح، يقترحون على أبنائهم تقليده. ونفس الإعجاب يحظى به في المدرسة، فيكون إشعاعه براقا على بقية الزملاء نظرا لامتلاكه سلطة المال على قِلَّته؛ إذ تعتبر الحرية في شراء ما يباع في باب المدرسة من أشياء بسيطة إنجازا كبيرا في عيون الأطفال الذين يتسولون بعض الدراهم من والديهم، وقد لا يحصلون عليها إلا بعد مشقة وعنت، وهذا ما يؤثر سلبا على تركيزهم على الدراسة، ويجعل أحلامهم وطموحاتهم تتمحور حول عمل الشارع باعتباره الحل الأقرب إلى التنفيذ، لتغيير الواقع.
أهم نتائج الدراسة
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج يمكن تلخيصها فيما يلي:
يرتبط تشغيل الأطفال بعوامل متعددة لا يمكن حصرها في الفقر وحده، وإن كان حضوره قويا في الدفع بالعديد منهم إلى العمل في الشارع، فهناك حضور قوي للعامل الثقافي والاجتماعي في التطبيع مع ظاهرة تشغيل الأطفال. وهذا الدور يأخذ أشكالا وأبعادا متعددة؛
تساهم الأسرة بطرق متنوعة في تشجيع الطفل على العمل، من خلال فرضه بطريقة مباشرة نظرا للحاجة إلى مدخوله، أو خوفا عليه من الفراغ، أو بطريقة غير مباشرة من خلال وصم بعض الأسر لابنها غير العامل، عبر مقارنته بابن الجيران الذي يعمل في الشارع بالموازاة مع متابعة الدراسة، والتنقيص من قيمته في كل مناسبة، مما يدفعه إلى محاولة إثبات الذات عن طريق العمل، ليجد نفسه في دوامة الشارع عرضة لمجموعة من التغيرات التي قد تطرأ عليه، فتؤثر على مساره الدراسي؛
يشتغل الأطفال في الغالب لحل مشاكل الأسرة وليس لحل مشاكلهم الخاصة؛ فالسبب المباشر في هذه الحالة قد يكون هو الفقر، لكن بالنسبة لمن؟ يبدو أن الجواب يكمن في فقر الأسرة وعجزها عن تلبية حاجياتها الأساسية بما فيها نفقات تربية الأبناء. لكن أثناء خروج الطفل للعمل في الشارع، فإنه لا يفعل ذلك بهاجس تحقيق المصلحة الذاتية، وإنما من أجل إنقاذ الأسرة بأكملها، من خلال ما يوفره عمله من مداخيل تستفيد منها الأسرة. وبالتالي، فعمله يدخل في باب التضحية في سبيل الآخر؛
يعتبر الهدر المدرسي وغياب البدائل التربوية والمهنية من الأسباب الرئيسة في انتشار ظاهرة تشغيل الأطفال بمدينة الجديدة؛ إذ لا يجد من انقطع عن الدراسة بديلا يمكن أن يحقق من خلاله الاندماج في البنى الحضرية بطريقة تضمن كرامته وتكوينه ثم تشغيله في ظروف حسنة، نظرا لغياب البدائل التربوية والمهنية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف. وهذا ما يضاعف من احتمالات ولوجه سوق الشغل غير المهيكل في سن مبكرة مع ما يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على شخصيته آنيا ومستقبلا؛
تتنوع الأنشطة التي يزاولها الأطفال المشتغلين في الشارع، لكنها لا تخرج عن دائرة “الأعمال الخطيرة”، سواء من حيث طبيعتها في حد ذاتها، مثل بيع السجائر، أو من حيث مكان مزاولتها؛ أي الشارع بما يحمله من مخاطر؛
يشكل الشارع مصدر تهديد للأطفال العاملين فيه؛ حيث تتضاعف احتمالات جنوحهم لأحد مظاهر الانحراف، أو التعرض لأحد أشكال العنف، إضافة إلى التهميش والاقصاء الاجتماعي، خصوصا أثناء مزاولة العمل؛
يمارس الطفل العامل إغراء على المحيطين به من المعارف والجيران وزملاء الدراسة، فيساهم عن غير قصد في خلق سيرورة الوقوع ضحية لبريق المال الذي يوفره الشغل، وهذا ما يفسر جدلية العلاقة بين الاقتصاد غير المهيكل والهدر المدرسي؛ حيث يعتبر عاملا مشجعا على مغادرة الأطفال مقاعد الدراسة في سن مبكر، و قد يكون مصيرا محتوما لعدد كبير منهم في الآن نفسه.
تعتبر ظاهرة تشغيل الأطفال من أبرز أعراض انتشار الاقتصاد غير المهيكل بمدينة الجديدة، وتعبر عن مدى تغلغل الهشاشة بمختلف أنواعها في أوساط الأسر، سواء بالمجال الحضري، أم بالقرى التابعة لنفوذه. وتساهم في تكريس الفقر والاقصاء في صفوف العاملين، خصوصا أن هؤلاء الأطفال يفتقدون لمقومات الانتقال إلى الشغل المنظم في المستقبل، فكيف يمكن وقف سيرورة الهدر المدرسي المفضية إلى التشغيل غير المهيكل؟
مقترحات لحلول ممكنة
بناء على مخرجات ونتائج الدراسة، يوصي الباحثان بضرورة التحرك بجدية لمحاربة ظاهرة تشغيل الأطفال، لما لها من انعكاسات سلبية على شخصية الطفل وعلى مستقبله الدراسي والمهني، مما يجعله غير مندمج بصفة فعالة ونافعة للمجتمع، ويقترحان التوصيات والمقترحات التالية:
إحصاء الأطفال العاملين وحصرهم قصد إخضاعهم لبرامج إعادة الأهيل والتمكين الاقتصادي؛
ضرورة تدخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني، للحد من انتشار الظاهرة ووقف نزيف الوقوع ضحيتها في صفوف الأطفال وخاصة المتعلمين منهم؛
القيام بحملات تحسيسية وتوعوية لفائدة الأطفال والأسر المتواجدة بالقرب من التجمعات التجارية غير المهيكلة
التركيز على المؤسسات التعليمية المتواجدة في الأحياء المحيطة بالتجمعات التجارية، لتحسيس التلاميذ بها بأهمية مواصلة المشوار الدراسي وترك البحث عن العمل إلى بلوغ سن الرشد القانوني؛
البحث عن جذور المشكل في وضعية الأسر الاقتصادية، ووضع سياسات عمومية تروم تمكين أرباب الأسر المعوزة من وسائل إنتاج الثروة لضمان العيش الكريم لأبنائها؛
رد الاعتبار للمدرسة باعتبارها وسيلة لتحقيق الترقي السوسيو-اقتصادي لخريجيها، وليس وسيلة لتفريخ البطالة والانحراف؛
خلق آليات لاستكمال التكوين الدراسي والمهني للتلاميذ المنقطعين عن الدراسة في سن مبكر لأي سبب كان، في إطار منحه فرصة ثانية لتحقيق الذات بعد الهدر المدرسي؛
تفعيل النصوص القانونية التي تحمي الطفل، وقيام السلطات بدورها في محارة الظاهرة، وضمان الاستقرار النفسي للأطفال في وضعية شغل؛
خاتمة
تعتبر ظاهرة تشغيل الأطفال نتاجا لمجموعة من الإخفاقات المتعددة المستويات: المستوى السياسي؛ حيث يبرز فشل المنظومة السياسية في معالجة الظاهرة والقضاء على مسبباتها. وعلى مستوى المدينة؛ حيث يتجلى فشل التدبير المحلي في توفير ظروف العيش الكريم للساكنة. ثم على مستوى الأسرة؛ حيث يتضح فشلها في الحفاظ على أبنائها وتوفير الرعاية والحماية اللازمتين. وكذلك على مستوى المدرسة العمومية؛ حيث يتجلى عجزها عن الاحتفاظ بالتلاميذ إلى نهاية مراحل الدراسة، وتخلفها في مواكبة متطلبات سوق الشغل رغم محدوديته. ويبقى الطفل العامل الضحية الأولى لكل هذه الاختلالات التي لا دخل له فيها من بعيد ولا من قريب.
من هذا المنطلق، يمكن القول بأن الطفل العامل يبقى ضحية مجتمعية، لأخطاء وتعثرات مجموعة من الفاعلين مما يضطره إلى التضحية بنفسه ومستقبله لإصلاح هاته الأخطاء وتحمل تبعاتها بمفرده. وإذا كان اشتغال الطفل يحرمه بطريقة أو بأخرى من فرصة النجاح في المشوار الدراسي، ألا يمكن اعتبار هذا العمل إقصاءً له من التمدرس، وحرمانا له من التمتع بطفولته بطريقة اقتصادية؟ ألا تتحمل الأسرة المسؤولية كاملة في تحديد مستقبل الطفل في الشارع؟ أم أن الدولة تتحمل جزءا من المسؤولية من خلال التغاضي عن تطبيق القوانين التي تحمي الطفل من كل مظاهر الاستغلال بما فيها الأسري؟ ما هي السبل الكفيلة بوقف اغتصاب طفولة الآلاف من الأطفال، وضمان مستقبل أفضل لهم من خلال الاندماج في بنية المدرسة؟
لائحة المراجع
عزيز قشاني، حسن مزين، 2019، مناهج وتقنيات البحث الميداني في القطاع غير المهيكل، مجلة المقريزي للدراسات الاقتصادية والمالية، المجلد 3، العدد 3، ديسمبر 2019، ص ص 01 19-
(OIT)., )2017(, Les estimations mondiales sur le travail des enfants: résultats et tendances, 2012-2016, Genève
BIT (1993), Statistiques de l’emploi dans le secteur informel, Rapport pour la XVe conférence internationale des statisticiens du travail, Genève, 19-28 janvier
BIT(1998), le Travail des enfants: l’intolérable en point de mire, conférence internationale du travail, 86e session, Genève
Charmes J. (1980) « Les contradictions du développement du secteur non structuré », Revue Tiers-Monde, n°82, p.321-335
Conseil économique et social (2011), l’Emploi des jeunes, Rapport 2011, Rabat, Maroc.
De Soto H. (1994), L’autre sentier: la révolution informelle dans le Tiers-Monde, La découverte, Paris, 245p
Goffman, Erving(1975), Stigmate les usages sociaux des handicaps, Les Editions de Minuit, Paris
Gourévitch J-P. (2002), L’économie informelle: de la faillite de l’État à l’explosion des trafics, Le pré aux Clercs, Paris, 346p
Hart K. (1973), Informal Income Opportunities and Urban Employment in Ghana, Journal of Modern African Studies, 11 (1), March, 61-89
Iconicoff M., et Silvia S., (1980), Armée de réserve, marginalité et secteur informel, Revue Tiers-Monde, n° 82
LAOUDI M., 1998, Casablanca à travers ses petits entrepreneurs de la pauvreté, (Thèse de doctorat éditée), Casablanca, Le monde de l’éducation de la culture et de la formation. Nr de Mai 1998
Mejjati Alami R. (2002), le travail des enfants au Maroc: approche socioéconomique: secteurs d’activité, pires formes, enfants de la rue, projet UCW
Rodgers G., Wilkinson F. (1991), « Pauvreté et marché du travail: priorités et thèmes de recherche » dans Travail et société, n° 16/2
UNICEF (1997), la Situation des enfants dans le monde, New York