جامع بيضا .. مهندس الأرشيف العمومـي بقلم :  عزيز لعويسي

admin25 أكتوبر 2024آخر تحديث :
جامع بيضا .. مهندس الأرشيف العمومـي بقلم :  عزيز لعويسي

جامع بيضا .. مهندس الأرشيف العمومـي

بقلم :   عزيز لعويسي

انتهت رسميا مهام الأكاديمي والأستاذ الجامعي جامع بيضا، على رأس أرشيف المغرب بعد تجربة رائدة تجاوزت العقد من الزمن، لتحل محله السيدة لطيفة مفتقـر، قادمة من قطاع الثقافة، والتي ستحمل مشعل  الأرشيف العمومي، ومعه حزمة من الملفات، التي طالما رافع  عنها الأستاذ جامع بيضا منذ أن تحمل حقيبة  الأرشيف الفارغة، وعلى رأسها مطلب تمكين المؤسسة من مقر عصري، يليق بها وبوضعها الاعتباري كمؤسسة عمومية ذات طابع استراتيجي، وهذا المطلب المشروع الذي تملك الرجل طيلة سنوات، ورافع عنه بكل السبل الممكنة والمتاحة، اصطدم، بصخرة واقع سياسي وسوسيوثقافي، لازال فيه “الأرشيف” يبحث عن  شهادة الهوية والاعتراف؛

الأستاذ جامع بيضا، تسلم أرشيف المغرب، بتاريخ 30 مارس 2011 في لحظة ولادة  عسيرة، في “غياب أي طاقم بشري لتسييرها، وأية بناية مؤهلة لاحتضانها، فكانت الانطلاقة عسيرة بكل ما في الكلمة من معنى” ، كما يحكي في مقال له منشور في العدد الرابع من مجلة أرشيف المغرب، تحت عنوان “مؤسسة أرشيف المغرب: أية استراتيجية؟”، فكانت الوضعية، تقتضي استعجال فتح الكثير من الجبهات، الدافعة في اتجاه تكوين النواة الأولى للمؤسسة الناشئة، ووضع قطارها على السكة الصحيحة، بوسائل مادية وإمكانيات بشرية متواضعة، لم تكن البتة، تتجاوز “ستة” مستخدمين؛

المدير الأسبق لأرشيف المغرب، بتجربته الطويلة في البحث التاريخي التي تجاوزت عتبة الثلاثة عقود، وبما يتملكه من مسؤولية والتزام وجاهزية واستعداد وتواصل فعال، نجح  بسرعة، في تجاوز دهشة البدايات، وانخرط مبكرا في خدمة إشعاع المؤسسة، فراهن على التكوين المستمر لفائدة أغلب المستخدمين استثمارا للتعاون الدولي، اقتناعا منه  بأهمية العنصر البشري في إحداث التحول الأرشيفي المأمول، بالموازاة مع استكمال صرح البناء القانوني والتنظيمي للمؤسسة، كما راهن على خدمة إشعاع أرشيف المغرب، عبر الندوات العلمية والمعارض والشراكات، وتفعيل آليات التعاون الدولي في مجال الأرشيف، واستهداف الأرشيفات الخاصة ذات الفائدة العلمية والتراثية، فضلا عن فتح جبهات أرشيفية متعددة الزوايا، عبدت الطريق لاستعادة الأرشيفات التي تهم المغرب والمحفوظة بمراكز الأرشيف بالخارج، كما هو الشأن بالنسبة لأرشيف الرابطة اليهودية العالمية، حيث تسلمت المؤسسة عددا مهما من الأرشيفات المرقمنة، التي جاءت “ثمرة مجموعة من المبادرات لبعض الشركاء، من خارج المغرب كالأرشيف الدبلوماسي لنــانط ومتحف ذاكرة المحرقة بباريس”، مما أعطى دفعة قوية جديدة للبحث التاريخي والأكاديمي حول تاريخ وذاكرة اليهود المغاربة؛

في عهد الأستاذ جامع بيضا، انتقلت أرشيف المغرب من وضع المؤسسة الخارجة للتو من الولادة العسيرة، إلى وضع واحدة من المؤسسات العمومية الأكثر إشعاعا وجاذبية، وهذا الانتقال السلس والمرن، ما كان له أن يتم لولا وجود إدارة  مسؤولة وصبورة وملحة وجادة، ومعها طاقم إداري وأرشيفي من الخبرات والكفاءات الشابة، أبلى ويبلي البلاء الحسن، خدمة للمسألة الأرشيفية العمومية، رغم الإكراهات القائمة مادية كانت أو لوجستية أو بشرية؛

إنجازات المؤسسة في عهد مديرها الأسبق الأستاذ جامع بيضا، يصعب الإحاطة بها كاملة في مقال محكوم بسلطة الاختصار والإيجاز، والكثير منها موثق في جميع الأعداد المنشورة في مجلة أرشيف المغرب، التي تعد واحدة من حسنات الرجل، ويكفي قولا، أنه تسلم  العديد من الأوسمة والجوائز التقديرية وشواهد الاعتراف من مؤسسات وطنية وعربية ودولية، اعترفت بما أسداه من خدمات داعمة للمسألة التراثية الوطنية، نذكـر منها على سبيل المثال لا الحصر، “دكتوراه فخرية من المدرسة العليا للأساتذة بليون الفرنسية، و“وســام رفيع” من وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية (2015)، و”ذرع الجامعة العربية”، و”الذرع الفخري” للجمعية المغربية للبحث التاريخي…، وعضويـة عدد من المؤسسات والهيئات الفاعلة في مجال الأرشيف، من قبيل “لجنـة الجامعة العربية الخاصة بالاستراتيجية العربية في مجــال الأرشيف”، و”فريق عمل المجلس الدولي للأرشيف المختص في الأرشيف وحقــوق الإنسان”، و”نائب رئيس  لجنـة المجلس الدولي للأرشيف المهتمة باستراتيجية إفريقيا في مجال الأرشيف”، واللجنة التوجيهيـة لمنتـدى مدراء الأرشيفات الوطنية بلندن”، و”عضو لمدة أربع سنـوات في اللجنـة الاستشارية لليونسكـو “ذاكرة العالم” المكونة من 14 خبيـرا”، و”الهيئة الاستشارية الخاصة بمجلة “وغـدان” الصادرة عن مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي…

فضلا عن انخراط الرجل في عدد من الشراكات الوازنة الخادمة للفعل الأرشيفي والداعمة لثقافة الأرشيف، ومنها الشراكة الموقعة بتاريخ 29 يوليوز 2021، بين المؤسسة والمديرية الإقليمية للتعليم بالمحمدية، تحت شعار “تدبير الأرشيف والتربية على حفظه، تثمين للهوية وتقوية للذاكرة وتعزيز للمواطنة”، والتي فتحت الأرشيف العمومي أمام التعليم المدرسي، وهذه الشراكة غير المسبوقة على المستوى الوطني، دعمت رصيد شراكات المؤسسة، مع عدد من المؤسسات والهيئات الوطنية، من قبيل “المكتب الشريف للفوسفاط”، و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، و”مجلس النواب”،  و”معهد الدراسات الإفريقية”، و”مدرسة علوم الإعلام”، و”جامعة محمد الخامس بالرباط”، و”كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان” و”الجماعة الحضرية لتطوان”،  و”المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي”، و”المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بجهة الرباط سلا القنيطرة، الفرع الإقليمي بالقنيطرة”، فضلا عن شراكات مع مؤسسات دولية وازنة، من قبيل “دارة الملك عبدالعزيز في المملكة العربية السعودية”، و “الهولوكوست التذكاري بواشنطن”، و”متحف “الأرشيف الوطني الفرنسي” و”الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي”، ومؤسسات من موناكو (أرشيف القصر الأميري، متحف علوم المحيطات، الأرشيف السمعي البصري)، و”الأرشيف الوطني التونسي” و”المكتبة  الوطنية البولندية” وغيرها؛ 

منجزات المؤرخ جامع بيضا طيلة إدارته لأرشيف المغرب، تحضر ليس فقط، فيما دعم به الرصيد الوثائقي للمؤسسة، من نفائس أرشيفية تعود لشخصيات بارزة في عالم الفكر والثقافة والسياسة والإعلام والفن والإبداع، من قبيل الوزير وقيدوم البرلمانيين المغاربة الأسبق، عبد الواحد الراضي، و الوزير الأول والقيادي الاشتراكي الأسبـق عبدالرحمان اليوسفي، والإعلامي محمد العربي المساري، والعلامة  محمد المختار السوسي، والمسرحي عبدالصمد الكنفاوي، والتشكيلي عفيف بناني، والأستاذ والمناضل “شمعون ليفي”، وعميد موسيقى الآلة “مولاي أحمد الوكيلي”، والإعلامي عبدالله شقرون…، بل وفي تثمين النفائس الأرشيفية المتوصل بها، في إطار معارض للصور والوثائق، تكمن أهميتها في الاحتفاء بواهبي الأرشيف، والتعريف بأعمالهم  ووضعها رهن إشارة  الباحثين والمهتمين و عموم الجمهور، وفي تحفيز شخصيات أخرى مالكة للأرشيف، من أجل الإسهام في دعم الأرشيف وخدمة ثقافته؛

وهذه المعارض ارتبطت بأشخاص كما ارتبطت بمؤسسات وازنة، كما هو الحال بالنسبة للمعرض الوثائقي الذي نظم بشراكة مع مجلس النواب، تحت عنوان “البرلمان المغربي .. معالم الذاكرة” ، احتفاء بالأسبوع العالمي للأرشيف (7-11 يونيو 2021)، والذي كان “مناسبة للغوص في ذاكرة وتاريخ الحياة النيابية والسياسية بالمغرب خلال الفترة الممتدة من الاستقلال إلى الوقت الحاضر”،  ومعرض أيقونة الثقافة المغربية اليهودية “حييم زفــراني”، المنظم بشراكة مع جمعية الصويــرة موكـادور، تحت عنوان “حييم زفـراني .. من أعلام النبوغ اليهودي المغربي”،  ومعرض “أمير موناكو ألبير الأول في رحــلات استكشافية إلى المغرب”  (أواخر القرن التاسع عشر)؛

وقد امتدت دائرة المعارض لتستوعب عددا من الأحداث التاريخية البارزة، مثل معرض ” طريق الوحدة .. طريق المواطنة”، الذي نظمته المؤسسة بشراكة مع كل من وزارة الثقافة والاتصال، ومركز الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي والمركز السينمائي المغربي، في إطار فعاليات اليوم الوطني للأرشيف (30 نونبر)، والاحتفاء بالذكرى المئوية لحرب الريف(1921-2021) ضمن عدد  خاص لمجلة أرشيف المغرب (العدد 6/2021)، فضـلا عن الاحتفاء  بوثيقــة بوفكــران سنـة 1937، التي تسلمتها المؤسسة مؤخـرا، في إطـار اتفاقيـة هبــة، من السيدة حوريــة الصنهاجي، نيابــة عن عائلتها، وكانت هذه الوثيقــة التاريخية التي  كان الحــاج العلمي الصنهاجي، أحد موقعيهـا، آخـر المنجـزات الأرشيفيـة التي حققتها المؤسسة تحت إدارة مديرها الأسبق جامع بيضـا؛

يذكر أن الأستاذ جامع بيضا، حاصل على دكتوراه السلك الثالث سنة 1982 ودكتوراه الدولة من جامعة بوردو بفرنسا سنة 1995، التحق بالتدريس كأستاذ للتاريخ، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1982، وشغل بها منصب نائب رئيس شعبة التاريخ بين سنتي 1986 و1988، ومسؤولا عن “وحدة المغرب الكبير” بين سنتي 2002 و2006 ، و”مجموعة البحث الإسلامية المسيحية”، وعضو مؤسس ومنسق لمجموعة الأبحاث حول “الدراسات المغربية اليهودية” التي تم تأسيسها سنة 1996، وانتخب، عضوا بمكتب “الجمعية المغربية للبحث التاريخي” سنة 1993، وشغل منصب الكاتب العام بذات الجمعية ما بين 2001 و2007، ونال عضوية المكتب التنفيذي لجمعية المؤرخين الأفارقة منذ سنة 2007، وعضوية اللجنة العلمية للمكتبة الوطنية للمملكة، والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، واللجنة العلمية للعلوم السياسية والاجتماعية منذ أول إصدار لها سنة 2010، وعضوية تحرير مجلة “هسبريس تامودا” منذ 1992؛

 ابن مدينة تزنيت جامع بيضا،  هو أيضا، عضو مؤسس ومدير سابق لمجلة البحث التاريخي ما بين 2003 و2006، وعضو بالمجلس الاستشاري لمجلة “أسطور” للدراسات التاريخية في قطر، ومؤسسا ومديرا لمجلة أرشيف المغرب منذ سنة 2016، ونائبا لمجلس إفريقيا للمجلس الدولي للأرشيف، وعضوا في اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج ذاكرة العالم لليونيسكو، واللجنة الإدارية للأرشيفات الوطنية والإفريقية والعالم العربي…

 والتزاماته المهنية والجمعوية، لم تمنعه من النبـش في حفريات تاريخ المغرب، حيث نشر على مدى 34 سنة، ما يزيـد عن “105” عنوانا ، تنوعت بين المقالات والكتب والأعمال الجماعية والحوارات …، و”38″ عنوانا ضمن “معلمة المغرب”، في أعمال بحثية تقاطعت مضامينها حول تاريخ المغرب المعاصر والحركة الوطنية وتاريخ الصحافة المغربية، وتاريخ الأقليات الدينية المسيحية واليهوديـة والأرشيف المغربي، فضلا عن مجموعة من الحوارات والقراءات النقدية لعدد من الإصـدارات”؛

مسار مهني وعلمي وبحثي متعدد الزوايا، ما كان له أن يتحقق على أرض الواقع، لولا ما ميز الرجل من جدية ومسؤولية والتزام وتضحية وكفاح ونكـــران ذات، بشهادة كل من تحمل معه أعبـاء معركة الأرشيف، وقبلها وزر البحث التاريخي، وهذه الصفات والميزات، يسـرت على الرجل بمعية طاقمه المساعــد، مهمة إرساء القواعد الأولى لمؤسسة أرشيف المغرب، وسهلت عليه، مأموريــة النهوض بها وتحويلها إلى واحدة من المؤسسات العمومية الأكثر جاذبية وإشعاعا، قبل أن يغادرها مغادرة الفاتحين، تاركا وراءه “استراتيجية وطنية لحفظ وتثمين الأرشيف 2023-2033″، يعول عليها لإحداث التحول الأرشيفي المأمول، بعدما تجاوزت المؤسسة في عهده، مرحلة الإرساء والترسيـخ والإشعاع، وبدون شك، ستكون هذه الاستراتيجية الواعدة، ورشا مفتوحا، نأمل أن تتحقق أهدافه ومقاصده، في ظل الإدارة الجديدة، لما فيه خدمة للمسألة الأرشيفية الوطنية؛

وفي هذا الإطار، وبقدر ما نقف وقفة احترام وتقدير واعتبار لأستاذنا جامع بيضا، لما قدمه من خدمات جليلة للتراث الأرشيفي الوطني، وما عهدنا فيه من جدية ومسؤولية والتزام وتواصل فعال، ما أثمر ميلاد كتابنا “مسألة الأرشيف بالمغرب .. تراث وحداثة”، الذي ما كان له أن يخرج إلى الحياة، لولا ما أحاطنا به مشكــورا، من دعم وثقة وتشجيع وتحفيز، بقدر ما نتمنى التوفيق والنجاح والســداد لخلفه السيدة لطيفة مفتقر، وأن تكون “خير خلف لخير سلف”، كما نتمنى إحاطة مستخدمات ومستخدمي المؤسسة، بما يستحقونه من دعم وعناية وتحفيـز، لأنهم جنود الأرشيف وعيونه التي لا تنام.

ونختم بالقول، إذا غادر الأستاذ جامع بيضا، مؤسسة أرشيف المغرب من بابها الواســع، فإن ذاكرته ستظل حية، وذكراه ستبقى متحركة بين أروقة المؤسسة عبر التاريخ، لأنه أول مدير للأرشيف العمومي، وأول من وضع حجره الأســاس، وأول من احتضنه ورعاه، ومنحه العطف والرعاية، إلى أن كبر واشتد ساعده، وكفاءة وطنية، بهذا الثقل الأكاديمي والبحثي والتدبيري، تستحق التكريم والتقدير والاعتبار، كما تستحق التوثيق والتثمين، قياسا لما كونه وأنتجه الرجل من مسار مهني وأكاديمي لافت للنظر في مجال التدريس والبحث التاريخي، واعتبارا لما راكمه من تجارب وخبرات ووثائق طيلة تدبيره لأرشيف المغرب .. إنه باختصار .. جامع بيضا .. مهندس الأرشيف العمومي، نتمنى له ولأسرته الكريمة موفور الصحة والعافية والنجاح والازدهار…، ولمؤسسة أرشيف المغرب، المزيد من التميز والإشراق والإشعاع …

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة