جدل اللباس المدرسي
بقلم : عزيز لعويسي
أثارت إحدى المدراس بالدار البيضاء زوبعة من الجدل، بعد إقدامها على “منع” تلميذة من الالتحاق بفصولها الدراسية في عدد من المواد بسبب ارتدائها ما وصف باللباس “غير المناسب”، وهذا القرار الإداري التربوي كان كافيا لإثارة غضب والدة التلميذة، التي هرولت إلى الفيسبوك، لتعبر عن ردة فعلها عبر تدوينة بحسابها الخاص رفقة ابنتها باللباس الذي تسبب في “منعها” من الالتحاق بالفصول الدراسية، ومن بين ما ورد في التدوينة “هاد الكسوة لي تحرمت منها ابنتي خمس ساعات من حصص الدروس في الرياضيات والفرنسية والاجتماعيات، وظلت بساحة المدرسة “محتجزة” وعرضة للتهكمات والإهانات، هذه حقوق الإنسان والحريات المنصوص عليها في دستور 2011″.
البعض رفع القبعة لإدارة المؤسسة التعليمية وتفاعل إيجابا مع ما اتخذته من قرار، اعتبارا لمسؤولياتها الإدارية والتربوية في ضبط إيقاع المجتمع المدرسي في إطار ضوابط التشريع المدرسي ومقتضيات النظام الداخلي وما يرتبط به من حقوق وواجبات والتزامات، والبعض الآخر اعتبر لباس التلميذة اختيارا شخصيا يدخل في باب الحريات الفردية، ولا يمكن أن يكون هذا اللباس مبررا لحرمان التلميذة المعنية من حقها في التعلم، والبعض الثالث رأى أن الإدارة كان عليها أن تسلك مسالك تربوية أخرى “غير المنع” مراعاة للحق في التعلم، واستحضارا لما قد يترتب عن قرار المنع من تداعيات على نفسية التلميذة وعلى سمعتها بالمؤسسة وعلاقتها بزملائها التلاميذ، أما البعض الرابع، فقد ربط ما حدث بالجدل المستمر بشأن الحريات الفردية التي لازالت موضوع نقاش وسجال متعدد الزوايا، بين من يتخندق في صف الحداثة ومن يسبح في فلك المحافظة، وإذا ما تركنا هذه الرؤى ووجهات النظر جانبا، لابد من إبداء الملاحظات التالية :
بالنسبة للمؤسسة : فهي تتحمل المسؤولية الإدارية والتربوية في فرض ما تراه مناسبا من القواعد والضوابط بناء على ما يؤطرها من تشريع مدرسي، واستنادا إلى ما ينظمها من نظام داخلي ملزم لكل أطراف المجتمع المدرسي، وبالتالي، فما أقدمت عليه الإدارة التربوية من قرار، يجد سنده في النظام الداخلي للمؤسسة الذي يضع التلاميذ في صلب جملة من الواجبات والالتزامات التي يتعين عليهم التقيد بها تحت طائلة التعرض إلى العقوبات التأديبية اللازمة.
بالنسبة للتلميذة : يفترض أن تكون على اطلاع بالنظام الداخلي الخاص بالمؤسسة، كما يفترض أن تتقيد بكافة مقتضياته، وأن تستوعب أن هذا النظام لم يفرض، إلا لضبط العلاقات بين أطراف المجتمع المدرسي من أطر إدارية وتربوية وتلاميذ، ومحاربة كل الظواهر المشينة والسلوكات اللامدنية، التي من شأنها إحداث العبث وإنتاج التهور والانحطاط، بكل ما لذلك من تأثيرات متعددة المستويات على العمليات التعليمية التعلمية.
بالنسبة للأم : كان يفترض أن تتحمل مسؤوليتها التربوية، بالحرص أن ترتدي ابنتها هنداما لائقا يجعلها بمعزل عن “المنع” أو “الجدل”، يحترم خصوصيات الفضاء التربوي، ويتقيد بضوابط النظام الداخلي للمؤسسة، وقبل هذا وذاك، أن تحترم قرار الإدارة التربوية التي تتحمل مسؤولية التدبير الإداري والتربوي للمؤسسة، واتخاذ ما تراه مناسبا لفرض قواعد الانضباط والاحترام والالتزام داخل المؤسسة، واختيارها الفيسبوك للتعبير عن مشاعر غضبها والاحتجاج على ما صدر عن الإدارة من قرار، نرى فيه خطوة معيبة، لما حمله ذلك من تشهير ومساس بالحق في الصورة بعد إرفاق التدوينة بصورة لابنتها باللباس الذي تسبب في منعها من دخول الفصول الدراسية، ومن تداعيات مباشرة على نفسية ابنتها/التلميذة وعلاقتها بزملائها داخل الفضاء المدرسي، ونرى أنه كان عليها حل المشكل القائم مع الإدارة بطرق تربوية، بدل اللجوء إلى خيار التشهير والإثارة.
بالنسبة للباس : من الصعب تقدير مدى خروج “اللباس” الذي كانت ترتديه التلميذة عن دائرة “المناسب” و”اللائق”، لكن في ذات الآن، نستطيع القول أن كل المؤسسات التعليمية تعتمد أنظمة داخلية، تضع التلاميذ في صلب جملة من الضوابط والقواعد التربوية التي يتعين عليهم التقيد والالتزام بها، خاصة تلك التي تلامس “الهندام” و”القبعات” و”النظارات الشمسية” و”الحلاقات المثيرة” والسراويل الممزقة” و”الهواتف النقالة” و”السماعات” وغيرها، وهذه الضوابط والقواعد يفترض أن يلتزم بها التلاميذ بدون استثناء وبدون تبريرات، كما يفترض أن تتواجد إدارة تربوية مسؤولة وحازمة قادرة على فرض احترامها وترتيب الجزاء المناسب على كل من يخالفها. وفي هذا الإطار، ودون الانخراط في أي نقاش عديم الجدوى فيما إذا كان لباس التلميذة “لائق” أو “غير لائق”، لا بد من القبول أن كل فضاء أو مكان، إلا وله حرمته وخصوصيته على مستوى الهندام والمظهر العام.
ثنائية الحق والواجب : إذا كانت بعض الرؤى قد وجهت اللوم لإدارة المؤسسة بمبرر “الحق في التعلم”، نرى أن هذه الرؤى تجاهلت الجزء المسكوت عنه في القضية، ويتعلق الأمر بالواجب والالتزام، وفي هذا الإطار إذا كان حق التلميذ في التعلم مكفولا وثابتا، فلن يستقيم عود هذا الحق في غياب “الواجب” و”الالتزام”، وما حدث يشكل مرآة عاكسة لمجتمع يعيش أزمة واجبات والتزامات، بدليل أن والدة التلميذة انتصرت لحق ابنتها في التعلم، وتجاهلت ما عليها من واجبات والتزامات داخل المؤسسة التي تدرس بها ابنتها، وعلى الأقل، كان عليها أن توازن بين حق ابنتها في التعلم، وبين واجب الإدارة التربوية في فرض احترام النظام الداخلي للمؤسسة، حتى لا تعم مشاهد العبث والتهور والانحراف.
واقع الممارسة : يظهر أن الكثير من المؤسسات التعليمية تعتريها الكثير من السلوكات اللامدنية التي تشكل انتهاكا صريحا للأنظمة الداخلية، من عنف وغش مدرسيين وحلاقات مثيرة وسراويل ممزقة ونظارات شمسية وهواتف نقالة و”سماعات” و”قبعات صيفية “، وهذه السلوكات وغيرها، تستفحل في الوسط المدرسي، في ظل شيوع ثقافة “التساهل” و”التجاهل” و”التردد” و”التقاعس” و”التجاوز” من جانب الإدارات التربوية أو بعضها على الأقل، ولا مناص اليوم، إلا أن تتملك الإدارات التربوية أدوات الجرأة والحزم والصرامة بما يضمن فرض احترام الأنظمة الداخلية، لكبح جماع العابثين والمتهورين من التلاميذ، والإسهام في خلق مناخ تربوي آمن ومستقر، تتحقق فيه شروط الاحترام والالتزام والإنصاف وتكافؤ الفرص.
وبعيدا عن لغة الآراء والمواقف، فما حدث يصعب مقاربته بمعزل عن الأنظمة الداخلية لمؤسسات التعليم العمومي التي تحدد حقوق وواجبات والتزامات أطراف المجتمع المدرسي من أطر إدارية وتربوية وتلاميذ، وفي هذا الإطار لابد من توجيه البوصلة نحو “مشروع النظام الداخلي النموذجي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي المتضمن لميثاق التلميذ(ة)” الصادر عن الوزارة الوصية على القطاع، بتاريخ 5 يونيو 2020، الذي تضمن جردا لوظائف المؤسسة وميثاقا للتلميذ يحدد حقوقه وواجباته، فضلا عن مقتضيات مرتبطة بحقوق وواجبات كل من أطر الإدارة التربوية وأطر هيئة التدريس، فضلا عن حقوق وواجبات جمعيات أمهات وآباء وأولياء التلميذات والتلاميذ، وهذا المشروع الذي تم اعتماده انطلاقا من الموسم الدراسي 2020-2021، استعرض في ديباجته جملة من الغايات والأهداف منها :
تنظيم الحياة الجماعية وضبط العلاقات بين الفاعلين التربويين داخل المؤسسة التعليمية.
التزام الجميع بقواعد النظام والانضباط وإشاعة روح التعاون واحترام الغير وتكريس مبدأ التشاور والحوار”.
تخليق الحياة المدرسية وتعزيز احترام قواعد الأخلاق العامة وترسيخ المبادئ والسلوكيات والمواقف والقيم التي تستند إلى مرجعيات تربوية ودينية ووطنية وإنسانية.
توفير مناخ تربوي داعم للعلاقات والأدوار المنوطة بجميع الفاعلين التربويين.
وإذا كان هذا المشروع قد أحاط التلميذ/التلميذة بجملة من الحقوق، فقد وضعه/ها بالمقابل، في صلب عدة واجبات والتزامات، منها “احترام النظام الداخلي للمؤسسة التعليمية”، و”اعتماد قواعد الحوار وتجنب كل سلوك غير لائق أو عنيف اتجاه زملائه التلميذات والتلاميذ وأطر هيئة التدريس وأطر الإداري التربوية وكل العاملين بالمؤسسة التعليمية، والابتعاد عن كل فعل من شأنه أن يتسبب في ضرر نفسي أو بدني للغير”، و”الحرص على تجنب الكلام النابي والمخل بالحياء، والالتزام بالسلوك الحسن والتحلي بالآداب العامة”، و”الحرص على النظافة والعناية بالمظهر والهندام قبل ولوج المؤسسة التعليمية، مع ارتداء الزي المدرسي الموحد داخل فضاءات المؤسسة التعليمية، وفي حالة تعذر ذلك، يجب أن تراعي ملابس جميع التلميذات والتلاميذ، المظهر التربوي النظيف واللائق الذي يراعي حرمة المؤسسة التعليمية”…إلخ.
واستحضارا لما تأسس عليه هذا المشروع من غايات وأهداف، واعتبارا لما حمله من حقوق وواجبات والتزامات ذات صلة بمختلف الفاعلين التربويين، ولتفادي الوقوع في أية تصرفات أو ممارسات من شأنها المساس بحرمة المؤسسات التعليمية والإخلال بوظائفها التربوية والتعليمية، يتعين على الإدارات التربوية الحرص على التطبيق السليم لمقتضيات الأنظمة الداخلية دون تدخل أو إملاءات من أية جهة، وعدم التردد في التصدي الصارم والحازم لكل مظاهر العبث وصور الانحراف داخل الفضاءات المدرسية، مع الرهان على الآليات التواصلية بمناسبة كل دخول مدرسي، لوضع التلاميذ وآبائهم وأمهاتهم في صلب ما يؤطر المؤسسات التعليمية من ضوابط ومقتضيات قانونية، دون إغفال الأدوار المحورية التي يمكن أن تلعبها جمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، سواء على مستوى التأطير والتحسيس بأهمية احترام الفضاءات المدرسية وما يؤطرها من تشريع وأنظمة أساسية، أو على مستوى مد جسور التواصل بين الإدارات التربوية وآباء وأمهات وأولياء التلاميذ.
وفي ظل ما يكشف عنه واقع الممارسة المهنية، من مظاهر العبث وصور التهور، ومن مشاهد العنف والغش المدرسيين، والتهاون والتكاسل وضعف الجاهزية والاستعداد وانعدام المسؤولية لدى شرائح واسعة من التلميذات والتلاميذ، نجد أنفسنا أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما الصرامة والحزم في تطبيق الأنظمة الداخلية وعدم التردد في معاقبة المخالفين، وإما القبول بواقع العبث والتسيب والانحراف.
ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون توجيه رسالة أو نداء لصناع القرار التربوي التعليمي، من أجل التحرك في اتجاه اعتماد “الزي المدرسي الموحد للتلميذات والتلاميذ بالتعليم الإلزامي” الذي نصت عليه المذكرة الوزارية عدد :094×17 ، لما له من أدوار في “ترسيخ مبادئ المساواة بين التلميذات والتلاميذ، وتقوية روح الانتماء للمدرسة” و”خلق فضاء تربوي منسجم في مظهره الخارجي، ومعبر عن هوية مشتركة”، ولنا عبرة في مؤسسات التكوين المهني والسياحي وعدد من معاهد ومدارس التكوين، التي اختارت اللباس الموحد، الذي يعد مدخلا لامحيد عنه، لبناء صرح ثقافة الانضباط والاحترام والالتزام…