خطاب “الجدية”
بقلم : عزيز لعويسي
كلمة “جدية” ترددت بقوة في خطاب الذكرى 24 لجلوس جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، لذلك، لم نجد أي جهد أو عناء، في تبني واعتماد العنوان المشار إليه أعلاه، وبمفهوم المخالفة، فالمكانة التي تبوأتها “الجدية” في الإطار المفاهيمي للخطاب الملكي، معناه أن “اللاجدية”، باتت العملة الأكثر رواجا في مغرب اليوم، في ظل ما تعرفه منظومة القيم والأخلاق، من تراجع وصل حد البؤس، وانحطاط بلغ درجة القلق واليأس؛
“لاجدية” تكمن تفاصيلها المقلقة، فيما بات ينخر المجتمع من “أنانية مفرطة” و”انعدام مسؤولية”، و”غياب روح المواطنة” و”تواكل” و”تقاعس” و”تهاون” و”تهور” و”تفاهة”، وما يسيطر عليه من مشاهد وممارسات “الجشع” و”الطمع” و”الاحتكار” و”استغلال النفوذ” و”المصلحة” و”الحلب” و”السلب” و”النهب”، وقائمة العبث طويلة، تجعلنا نقف وجها لوجه، أمام سلوكات وممارسات وتصرفات، مهددة لهوية الأمة المغربية، ومتربصة ب “تامغرابيت”، التي يصعب فهمها بمعزل عن “الجدية” أو “المعقول” أو “النية” بلغة الآباء والأجداد؛
“لاجدية” عطلت وتعطل عجلات البناء والنماء، وحولت الكثير من المدن والقرى إلى مجالات خارج تغطية التنمية، وعمقت وتعمق إحساس شرائح واسعة من المواطنين، بانعدام الكرامة والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وتكرس في أوساط الموطنين، مفهوما للحياة السياسية، مقرونا بالفساد والريع والأنانية والوصولية والانتهازية والاستقواء والاستعلاء والحسابات السياسوية الضيقة؛
رهانات وتحديات مغرب اليوم، تفرض إرادة حقيقية في التصدي لثقافة “اللاجدية” التي يتمدد معها الفساد بكل مستوياته، وتتوسع معها دائرة العبث والتهور والتفاهة والسخافة والانحطاط، وتكبح جماح ما يتفرد به المغاربة من تميز وإبداع وتحدي وإمتاع، وقبل هذا وذاك، تعرقل عجلات النمو والنماء، وتمنع الوطن من بلوغ مرمى الإقلاع التنموي الشامل، وتملك القدرات اللازمة في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، يفرض لم الشمل وصون اللحمة الوطنية وتمتين الجبهة الداخلية، لمواجهة التحديات الآنية أو المستقبلية؛
مغرب اليوم، في حاجة ماسة إلى ثقافة “الجدية” التي تعني “الوطنية الحقة” وما يرتبط بها من “مسؤولية” و”التزام” و”انضباط” و”تضحية” و”نكران للذات” و”نزاهة” و”استقامة” و”مبادرة” و”جاهزية” و”استعداد”، وقد ثبت جليا، أن المغاربة لما يسيرون على نهج “الجدية”، يستطيعون رفع التحديات وكسب الرهانات، ولنا عبرة فيما حققته وتحققه كرة القدم المغربية من ريادة عربية وإفريقية ودولية، وما تحقق من ثورة صامتة في الطاقة الخضراء، ممثلة بشكل خاص في مركب نور ورززات، الذي بات أكبر مركب لإنتاج الطاقة الشمسية في العالم، وما وقعته وتوقعه الكفاءات المغربية من سبق في عدد من الصناعات والابتكارات التكنولوجية، وما حققه مؤخرا الطلبة المغاربة الذين حصدوا أغلب مقاعد مباراة الولوج إلى مدرسة “البوليتكنيك” بباريس بفرنسا، وغير ذلك من الأمثلة، التي تؤكد أن “المستحيل ليس مغربيا”؛
“جدية” لابد أن يوازيها “تطبيق أمثل” لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاصرة “أعداء الوطن” من الفاسدين والعابثين والمتهورين أينما كانوا وحيثما وجدوا، والارتقاء بالقضاء ليكون حرا ومستقلا ونزيها، باعتباره رافعة للتنمية وركيزة مجتمع العدالة والمساواة الاجتماعية، ورافعة دولة الحق والقانون والمؤسسات، ومنح الفرص لما يزخر به الوطن من خبرات وكفاءات حقيقية في الداخل كما في الخارج، بعيدا عن منطق الولاءات والترضيات والتزكيات والزبونية، وبمعزل عن واقع “باك صاحبي”؛
“جدية” بمعناها المغربي الأصيل، تبقى خيارا لامحيد عنه، لمواجهة ما “يعيشه العالم من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل الكثير من الأزمات”، ولكسب رهانات خارطة الطريق التي وضعها جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش، والتي حدد خطوطها العريضة في “التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك”، و”التشبث بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد”، و”صيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك”، فضلا عن “مواصلة مسارنا التنموي، من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية”؛
“جدية” تسائلنا جميعا كدولة ومؤسسات وأفرادا وجماعات، من زاوية مسؤولياتنا الفردية والجماعية في خدمة الوطن والترافع عن قضاياه المصيرية والاستراتيجية، بمحبة ووفاء ومسؤولية والتزام ونكران للذات، ولابديل لنا اليوم، سوى التزام أقصى درجات “الجدية” ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأنها سبيلنا للحفاظ على هويتنا المغربية الأصيلة، في عالم موسوم بالأنانية ومطبوع بالقلق والتوتر، والرفع المشترك لكل التحديات والرهانات المطروحة، وفي طليعتها بعد التنمية، قضية الوحدة الترابية للمملكة، التي لايمكن البتة، طي ملفها بشكل لارجعة فيه، دون أن نتملك جميعا “الجدية” و”المعقول” و”النية”، وهي القيم المغربية الأصيلة، التي توارثها الآباء والأجداد، ومن مسؤولياتنا المواطنة، المحافظة عليها، بتهذيب السلوك وتخليق الحياة العامة، لأنها منبع القوة والإلهام والإبداع والإمتاع والتفرد، في بلد “مشرق الأنوار” و”منبت الأحرار”، بلد متعدد الهويات والثقافات والروافد، ينصهر شعبه بسلاسة وأريحية في صلب شعار خالد عنوانه “الله..الوطن..الملك”، على أمل أن نكون أفرادا وجماعات، في مستوى هذا الشعار الخالد، من أجل مغرب التحدي والاستثناء والإبداع والإمتاع، ونختم بأن نتمنى من الله عز وجل، أن يجنب هذا الوطن الغالي، شر الفاسدين والعابثين والمتهورين والطامعين والحاسدين والمتربصين…