ذاكرة مكان ” الحلقة 10 “
لنسافر إلى مدينة الرياح ….مدينة الصويرة
بقلم : مطريب بوشعيب
لإقليم الصويرة حدود طبيعية تتمثل في نهري تانسيفت وشيشاوة في الشمال والشرق، والسفوح الشمالية للجزء الغربي من جبال الأطلس الكبير في الجنوب، وفي الناحية الغربية يمتد الساحل المتميز بخليج ظل المنفذ الرئيس نحو العالم الخارجي طوال ثلاثة آلاف سنة…أصبحت المنطقة منذ أن تمكن الدين الحنيف من قلوب أبنائها مركزاً للدعوة الإسلامية ورباطاً للدفاع عنها من البدع الضالة والمنحرفة. وقد تجاوبت لذلك مع الحركات السياسية التي كانت تهدف إلى تدعيم وحدة البلاد وصد الأخطار الخارجية عنها…وإذا كان بناء المولى محمد بن عبد الله لمدينة الصويرة تجديداً لدور المنطقة، فإن توقيعه على المعاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكيّة تدعيم لاستراتيجية الانفتاح الواسع على عالم المحيط الأطلسي في ضفتيه الأوربية والأمريكية، من أجل أن تواكب المملكة المغربية الركب الدولي المتقدم في شتى مجالات الحياة السياسية والحضارية…ميزت الطبيعة إقليم الصويرة بخليج تمتد أمامه جزيرتان كان لهما دور أساسي في ربط صلات مختلفة منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد مع الأقوام التي تاجرت مع حوض البحر المتوسط وشمالي المحيط الأطلسي كالفنيقيين والقرطاجيّين أو التي بسطت نفوذها كالرومان والواندال والبيزنطيين…ومع الأيام تطورت أوضاع المنطقة وازدادت أهميتها بظهور وحدات سياسية كإمارة حاحا التي أسس أمراؤها قبل الإسلام مدينة الصويرة القديمة ..وعندما أشرقت شمس الإسلام على الكون وامتدت الفتوحات الإسلامية إلى المغرب الأقصـى، كانت بـلاد ركَراكَة وحاحا ـ وهما من أشهر قبائل المصامدة ـ من المناطق التي تجاوبت مع الدعوة الإسلامية: »أوغل عقبة بن نافع في الغرب سائراً وساحل البحر حتى صار بأحواز طنجة، ثم واصل المسير حتى بلغ البحر عند ماسة وقبل عودته، »خلف شاكر بن عبد الله الأزدي أحد مشاهير التابعين الذين دخلوا المغرب معه… يعلم المصامدة وغيرهم«. وبذلك عد »شاكر من رجال ركَراكَة… وكانت ركَراكَة من أشرف قبائل المصامدة لسبقهم إلى الإسلام …ومما يؤكد حفاظ هذه البلاد على سيرة السلف الصالح: وقوفها ضد بدع البورغواطيين بتامسنا، وقيامها بحروب عديدة ضدهم، منها تلك التي قادها يعلى بن مصلين الركَراكَي الذي جدد رباط شاكر، تخليداً لذكراه وتمسكاً بمذهبه ومن المشاهير الأعلام الذين تميزت بهم المنطقة »القطب الشهير ذو الكرامات الظاهرة سيدي مكَدول بن عبد الجليل الركَراكَي، كان عالماً صالحاً وله القدم الراسخة في الشجاعة ومن المجاهدين الأعلام . وقد كان لتجاوبه مع الدعوة المرابطية أكبر الأثر في الانتصارات العسكرية التي حققتها ضد البورغواطيين…بعد وفاة سيدي مكَدول، أصبح ساحل هذه البلاد يعرف باسمه. فقد ذكر البكري أن »مرسى سيدي مكَدول: مرسى مشتى مأمون… تنزل فيه السفن من جميع البلاد… وهو ساحل أغمات… وأحد رباطات ركَراكَة ، أي أن ميناء المنطقة ظل نشيطاً لمزاياه الطبيعية، وكان المنفذ الرئيس لبلاد أغمات، حيث لم تكن مدينة مراكش قد بنيت بعد، وأن مدفن سيدي مكَدول قد أصبح من أشهر الرباطات بها…واعتماداً على ما أورده ابن الزيات في “التشوف إلى رجال التصوف” والمتوفى عام 627 هـ، فإن منطقة ركَراكَة وحاحا قد اتصفت بظهور عدد من العلماء والفقهاء والمجاهدين والأولياء والمتصوفين الذين انتشروا في المناطق المختلفة من البلاد، بالإضافة إلى الرحلات التي قام بها البعض الآخر في الشرق الإسلامي ..ومن أشهر الرحالة الذين ينتسبون إلى هذه المنطقة: أبو عبد الله محمد العبدري الحيحي الذي خرج من بلاده حاحا في قعدة عام 688 م: »كان سفرنا ـ تقبله الله تعالى ـ في الخامس والعشرين من ذي قعدة عام ثمانية وثمانين وستمائة مبدؤه من حاحا صانها الله وعاد إليها بعد رحلة أو صلته إلى الحجاز والشام ومصر والأندلس، وما دوّنه في رحلته يؤكد سعة أفقه واطلاعه الواسع ويعكس الجو العلمي الذي كانت تتميز به بلاد حاحا…إن المتتبع لأحداث المغرب منذ مطلع القرن 9 هـ/ 15 م، وهو القرن الذي شهد عمليات الاحتلال الأجنبي لمعظم سواحل المغرب الشمالية والغربية ، تثير انتـباهه ظاهرتـان متلازمتـان: الصدى الذي أحدثه الاحتلال البرتغالي ـ الإسباني للأراضي المغربية، وظهور رد فعل قوي على الغزاة المحتلين…فمنذ أن احتل البرتغال مدينة سبتة (1415 م) وطوال مراحل الاحتلال التالية، ظهر عجز السلطات القائمة عن مواجهة الأحداث. فقام المخلصون من الدعاة والأئمة والمشايخ يحثون الناس على بذل النفس والنفيس للدفاع عن الوطن ولإعلاء كلمة الإسلام. وكانت الدعوات إلى الجهاد تتزايد باستفحال الخطر الصليبي. ولقد بلغ الأمر ببعض القائمين على شؤون الجهاد أن كفر كل قادر على حمل السلاح وكل متقاعس عن أداء هذا الواجب المقدس ….وفيما يتعلق بإقليم الصويرة، فقد عرف النصف الثاني من القرن 15 م تسابقاً برتغالياً ـ إسبانياً لاحتلال قواعد على سواحل المنطقة ما بين رأسي »كانت« و»نون«، أي ما بين أسفي وإفني، لأهميتها الاقتصادية (قصب السكر) واستراتيجيتها في المواصلات البحرية. وازدادت حدة هذا التسابق بعد اكتشاف الإسبان للقارة الأمريكية، والبرتغال لطريق الشرق الأقصى البحرية عبر رأس الرجاء الصالح…لقد تعددت قواعد المجاهدين بالسواحل المغربية بتعدد مراكز الاحتلال الأجنبي. وبفضل قواعد المجاهدين، لم يتمكن الغزاة البرتغال والإسبان من التوغل داخل الأراضي المغربية، أي أن أعمال الجهاد المقدس قد أفسدت على الصليبيين كل محاولة للتوسع وبسط النفوذ…ومن أشهر الحركات الجهادية: الحركة الجزولية، نسبة إلى الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن سليمان… الجزولي. وجزولة قبيلة ببلاد سوس. فبعد رحلة إلى الشرق الإسلامي وأداء فريضة الحج، عاد الإمام الجزولي إلى المغرب واستقر برباط »طيط« بساحل دكالة، حيث الشيخ عبد الله أمغار، ثم في مدينة أسفي، وأخيراً بأفوغال بزاوية الشيخ سيدي علي معاشو ببلاد الشياظما، أي أن الشيخ الجزولي قد عاصر الأحداث الخطيرة التي نتجت عن التسابق البرتغالي ـ الإسباني لاحتلال المزيد من القواعد بسواحل هذه المنطقة. فانطلق يدعو إلى الجهاد وحمل السلاح ضد المحتلين: »إن دولتنا دولة المجتهدين، المجاهدين في سبيل الله، المقاتلين لأعداء الله ..تجاوبت ركَراكَة وحاحا مع دعوة الشيخ الإمام الجزولي، خاصة وأن سواحلها كانت أكثر عرضة لأخطار الغزو المسيحي. والدليل على التأثير البعيد الذي أحدثته الدعوة الجهادية في البلاد، أن الإمام الجزولي قد اتخذ من أفوغال (سيدي علي معاشو) بالشياظما وتانكروت بحاحا مركزين للإقامة وبث الدعوة وتعبئة الصفوف للجهاد. تضاعف أنصار الدعوة الجزولية بعد وفاة الإمام الجزولي، وتعددت قواعد جهادهم بسواحل الشياظما وحاحا وسوس التي بنى بها البرتغال حصوناً عسكرية (حصن أكَادير 1505، حصن موكَادور 1506)، وتحولت مع الأيام إلى حركة سياسية بمبايعة قبائل سوس للإمام محمد بن عبد الرحمان (القائم بأمر الله) في شعبان 916 هـ/ الموافق لنوفمبر 1510 م، أحد مجاهدي تاكمادرت ببلاد درعة ممن بلغتهم دعوة الإمام الجزولي…أظهرت حاحا والشياظما تأييداً مطلقاً للدعوة السعدية الناشئة، خاصة بعد أن انتقل الإمام القائم بأمر الله إلى تانكروت وأفوغال التي وافاه الأجل بها ودفن بجوار قبر الشيخ سيدي معاشو…لقد حرص المؤسسون الأولون للدولة السعدية على تعبئة صفوف المجاهدين لمواجهة قواعد الاحتلال الأجنبي. وبعد جهاد دام نحو ثلاثين عاماً تمكن المولى محمد الشيخ السعدي من تحرير حصن أكَادير في مارس 1541م وحصون موكَادور وأسفي وأزمور في دجنبر من السنة نفسها. ولما كان القادة السعديون يربطون بين عمليات الجهاد لتحرير السواحل وبسط نفوذ دولتهم الناشئة بالداخل، فإن طبقات العامة قد تجاوبت معهم وتمكنوا في منتصف القرن 10 هـ/ 16 م من توحيد كل البلاد. وبعد الانتصار في معركة وادي المخازن الشهيرة (الاثنين 30 جمادى الأولى عام 986 هـ/ الموافق 4 غشت 578 م) على الحملة البرتغالية، استقرت دعائم الدولة السعدية واستعاد المغرب مكانته الدولية بصفته قوَّة سياسية لها كامل الاعتبار لدى الأتراك العثمانيين في الشرق الإسلامي، والإسبان في الغرب المسيحي…عرفت منطقة حاحا والشياظما تطوّراً هامّاً في عهد الدولة السعدية، وخصوصاً في عهد المولى أحمد المنصور الذي حرص على تشجيع زراعة قصب السكر وبناء معاصره في بلاد حاحا: »ارتاد ـ أيده الله ـ البسيط الأفيح بوادي أنوال من بلاد حاحا وأنفذ إليها العرفاء بأمور المعاصر وتصاريفها ومقاييسها ومقاديرها والتربة التي تزكو بها غروس قصبها… ثم انطلق العمل وعم الاغتراس بالقصب الأوطان .. وذلك كما جاء في “مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا” لأبي فارس عبد العزيز الفشتـالي وزير المنصـور وهو معاصر: »ومن أعظم آثاره ـ أيده الله تعالى ـ المعاصر السكرية التي ابتدع رسومها واخترعها ببلاد حاحا… وهي من الأمور التي انفرد ـ أيده الله ـ بتدبيرها، فجاء للناس منها بآية الإعجاب والغرابة..
وعن التطور العمراني للمنطقة:وإذا ألقيت عصا التسيار بالمعصرة، رأيت مجمع الورى وأول الحشر وقرية النمل وكورة النحل لكثرة ما ضمت من العَمَلَة وحشرت من الخلق، ولا تسأل عن هولها ولغط الأصوات بها تدل على عظمة شأنها وضخامة أحوالها على ضخامة الملك وسعة ذرع الدولة … وقد قطعت معاقدة الكراء فيها اليوم لطائفة من أهل الذمة ..وجميع هذه الآثار كشفت عنها النقاب حفريات عام 1948 التي قام بها في المنطقة بول بيرتييه (Paul Berthier) سواء فيما يتعلق بالشبكة المائية للري أو بالآلات والمصنع لمعالجة السكر ..يعد المولى محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي الذي حكم البلاد ما بين 1171 و1204 هـ/ 1757 و1790 م من الشخصيات المتميزة في تاريخ المغرب الحديث. وقد اتصف عهده :
1 ـ بالعمل على إقرار الأوضاع الداخلية للبلاد.
2 ـ الانفتاح على العالم الخارجي بعقد معاهدات وإرسال سفارات إلى عواصم أوربا الغربية والشرق الإسلامي.
3 ـ الاهتمام المتزايد بالسواحل المغربية على المحيط الأطلسي، وذلك للأهمية التي أصبحت لهذا المحيط في المواصلات الدولية بين أوربا الغربية والعالم الجديد أمريكا، وبينها وبين الشرق الأقصى عبر رأس الرجاء الصالح.
ويدخل في نطاق اهتمامه بالسواحل المغربية على الأطلسي: بناؤه وتطويره لعدد من المدن. ومن ذلك: بناؤه لمدينة الصويرة. واعتماداً على ما أورده البكري، فقد كان بالمنطقة»مرسى مكدول« وصفه بقوله: »مرسى مشتى مأمون«. وقد ظل هذا الميناء مستعملاً حتى قبيل بناء المدينة، باسم »مرسى الصويرة«، بدليل أن: 1 ـ أحمد الغزالي سفير المولى محمد بن عبد الله إلى إسبانيا، وهو معاصر ذكر في مخطوطه: »أرشدته بصيرته… لتشييد ثغر… بإزاء مرسى الصويرة .
2 ـ أورد الضعيف الرباطي في مخطوطه، وهو معاصر: »لما فرغ السلطان من عرس ولده بمراكش…، ذهب إلى الصويرة«؛ وقال: »وفي سنة 1178 هـ، أمر السلطان ببناء الصويرة …
يتبع