ذاكرة مكان ” الحلقة 2 “
لنسافر إلى آسفي
آسفي : تاريخ مفتوح
لا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه
بقلم : بوشعيب مطريب
…هي قديمة قدم التاريخ نفسه. حيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات كثيرة، ففرانسو بيرجي ذكر أن سكان مدينة صور الفينيقية أشأوا بأسفي وكالة تجارية في القرن 12 قبل الميلاد. وأسكنوا فيها المهاجرين الكنعانيين الذين طردوا على يد الغزاة العبرانيين. وأطلقوا على هذه المدينة اسم أعظم سيد مقدس ببلد كنعان وهو آسف. أما ليون كودارد فيذهب إلى جعل مدينة أسفي من بين خمسة مرافئ أسسها حانون القرطاجي، وهذا ادعاء لا يمكن القطع بصحته نظرا للشكوك التي أحيطت بتقرير رحلة حانون القرطاجي.
ويشير مونيي إلى أن نص رحلة حانون عبارة عن أكبر أكذوبة في تاريخ الملاحة للعصر القديم. وجاء على لسان الحسن الوزان في كتابه «وصف إفريقيا» أن مدينة أسفي بناها الأفارقة الأقدمون. ونجد ذكر تاريخ أسفي عند ابن خلدون الذي أكد أن استقرار الأمازيغ بالمدينة كان منذ أحقاب قديمة يصعب تحديدها، ويذهب البكري في نفس اتجاه ابن خلدون حيث قال إن كلمة أسفي مشتقة من الكلمة الأمازيغية – أسيف – التي تعني مجرى مائي. وبالفعل فإن مدينة أسفي يخترقها وادي الشعبة (أسيف) ويصب فيها…وقد كان الأمازيغ قبل الإسلام يشيدون المنارات على الشواطئ لهداية السفن الأمازيغية أثناء عودتها ليلا. ويمكن أن يكون بهذا البلد بعض هذه المنارات، التي تعني بالأمازيغية أسفو، فسمي بها. وربط الإدريسي أصل اسم مدينة أسفي بقصة فتية سماهم المغررين، خرجوا من أشبونة (لشبـونة) وركبوا البحر المظلم ليقفوا على نهايته فوصلوا إلى موضع أسفي، ولما رآهم جماعة من الأمازيغ، وعرفوا أمرهم، قال زعيمهم وا أسفي تحسرا على ما قاسوه فسمي المكان بتلك الكلمة.وبعيدا عن التضاربات في أصل تسمية مدينة أسفي، فإن الأكيد هو أنها حظيت منذ القدم بأهمية بالغة حتى أن اسمها ورد ضمن أمهات المعاجم التاريخية، كمعجم البلدان لياقوت الحموي، كما ذكرها الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة.شكلت أسفي وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية من تطوان وفاس والرباط وسلا ؛ كما وصفت بأنها مدينة دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، مثل غيوم بيرار الذي مثل فرنسا هنري الثالث لدى المولى عبد الملك، وقنصل الدانمرك جورج هورست، وجون موكي صيدلاني الملك هنري الرابع؛ كما كان المبعوثون البريطانيون يفدون إلى أسفي قبل التوجه إلى مراكش، حيث نزل بالمدينة البحار الانجليزي هاريسن لتسليم رسالة من ملك إنجلترا تشارلز الأول إلى مولاي عبدالله.
وهكذا تحولت أسفي إلى ميناء دبلوماسي ترسو به السفن الأوربية التي ترغب في إبرام الاتفاقيات الدولية بالعاصمة مراكش.كانت أسفي أهم الموانئ المغربية، مما جعلها تشهد رحلات علمية شهيرة (راع 69-70- الطوف74). وقديما اتخذها المرابطون مركزا لتجميع قوافل الذهب الإفريقي الذي ينقل عبر السفن إلى الأندلس لسك النقود، وبذلك، أصبحت أسفي مرسى الإمبراطورية المرابطية.كل هذه الخاصيات جعلت من مدينة أسفي محط أطماع القوى الاستعمارية الأوروبية، إذ جعل منها البرتغاليون ميناء رئيسيا لتصدير الحبوب والسكر والصوف. ومع توافد جالية انجليزية كبيرة على المدينة، أقام بها الإنجليز مركزا تجاريا ثم أشأوا في القرن19 مخزنا لتجميع كل ما يصدر من أسفي إلى انجلترا. غير أن معاول الهدم طالتهما ليتم تحويل مكانهما إلى ساحة مولاي يوسف. وظهرت في مدينة أسفي دبلوماسية السكر على حد تعبير المؤرخين الأوربيين، حيث كان السكر القادم من شيشاوة في مقدمة المواد التي تسوقها المدينة لانجلترا، لأن المملكة لم تكن تقبل في مطبخها على ما يقوله هنري روبيرتس-إلا السكر المغربي.
وكانت أسفي منطلقا لملح البارود المغربي الذي لم يكن يوازيه أي ملح في العالم، والذي كان الدفاع الحربي الانجليزي يعتمده، فضلا عن كون المدينة كانت تزود أوروبا بأجود الصقور المغربية التي ساهمت في تطوير هواية القنص بالصقر.مدينة أسفي هي كذلك مدينة الجوامع المنتشرة والأربع والأربعين وليا. كما أنها روضت الطين منذ العصور الغابرة وجعلته يستجيب للاحتياجات اليومية، وحولته إلى لغة شعرية أو لوحة تشكيلية تمتزج فيها الألوان بتناسق بديع. وأسفي أفلحت في تحدي أمواج البحار حيث اشتهر بها الربابنة والرياس الكبار حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين. وملح الختام، أغرت أسفي بلذائذ أسماكها االجيران فجاءوها محتلين.واهتم السلاطين بأسفي فأقاموا بها دارا للسكة ما بين سنة 1716 و1830م، التي كانت توجد حيث يوجد حاليا ضريح سيدي بوذهب، حسب ما أورده الكانوني الذي يقول: «دار السكة كانت تعالج الذهب والفضة فكانت تعرف بدار الذهب». ولعل أهم حدث عرفته أسفي، هو وصول القائد الإسلامي عقبة بن نافع سنة681 م، حيث ترك صاحبه شاكر لتعليم الأمازيغ اللغة العربية والتعاليم الإسلامية، وكان لهذا التابعي رباط مشهور يعرف إلى اليوم برباط سيدي شيكر، وهو من أقدم الرباطات بالمغرب، كان يحضره العلماء ويقام به موسم سنوي حضره بن الزيات وسجل أخباره.وإذا كانت بعض النواحي معروفة بما يوجد بها من كبار الصلحاء، فكذلك الشأن بأسفي التي صارت مقرونة بذكر الولي الصالح أبي محمد صالح الذي أنشأ رباطه الشهير بأسفي، وأسس 46 رباطا تربط المغرب بالمشرق عن طريق الحج. فالحاجة كانت ماسة إلى إنعاش الجانب الروحي خاصة أن أسفي عرفت النحلة البرغواطية. وتزامنت الدعوة إلى الحج مع الموقف الذي تبناه فقهاء المغرب والأندلس في إسقاط شعيرة الحج، حماية للمسلمين من مخاطر الطريق.
المعالم الأثرية لمدينة أسفي جبل يغود : أدت الحفريات التي تم القيام بها بهذا الموقع إلى اكتشاف بقايا الإنسان وخاصة جمجمتين مع أدوات ترجع إلى الفترة الموستيرية وعظام حيوانات.جعلت دراسة عظام الإنسان الباحث « إنوشي» يصنفها في عداد الإنسان النيوندرتالي، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن إنسان جبل يغود هو إنسان عاقل بدائي.يمكن أن يوضع تاريخ الموقع بين 90.000 و 190.00 سنة، الشيء الذي يبين أن إنسان يغود يمكن أن يكون قد عاش في نفس الفترة أو في عهد سابق لأول إنسان عاقل عثر عليه بالشرق الأوسط.
أبراج السور : يحيط بالمدينة القديمة لأسفي سور شيده البرتغاليون في مطلع القرن 16م على أنقاض السور الموحدي لصد هجمات السعديين. يبلغ طوله 1600 متر، تتخلله تسعة أبراج عالية هي برج الرباط- برج الناصر- برج امستوكي- برج الدار- برج الغازي- برج باب الشعبة- برج القواس- برج السلوقية وبرج خزانة البارود..
المسجد الأعظم : يوجد بداخل المدينة القديمة. وقد بني في عهد الدولة الموحدية، وكان متصلا بالمنارة الموجودة حاليا جانب السور. استعمل المسجد الأعظم في عهد الاستعمار البرتغالي محلا للقاذورات وللدواب، وجعلوا الصومعة الموجودة حاليا منارا للكنيسة؛ وتعتبر بذلك من أقدم المباني التاريخية بآسفي، وقد تم بناؤه من جديد في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1807م، الذي استعاد المدينة وأعاد للمسجد هيبته وشموخه.
الكنيسة البرتغالية : شيدت سنة 1519م من طرف البرتغاليين. وتقع قرب المسجد الأعظم، وهي فريدة من نوعها في إفريقيا الشمالية. تمتاز بفنها المعماري القوطي. هدمها البرتغاليون ساعة خروجهم من المدينة سنة 1541، ولم يبق من معالمها إلى جزء بسيط أعيد ترميمه من طرف وزارة الشؤون الثقافية.
تل الخزف : يضم العديد من الورشات التي مازالت تحافظ على طابعها التقليدي، وخاصة الشكل المعماري للأفران التقليدية، وبذلك يعتبر متحفا مفتوحا يبرز خصوصيات هذه الصناعة العريقة بأسفي. وقد تم ترتيبه كموقع تاريخي، مؤرخ ب 20 جمادى الثانية سنة 1398 الموافق 29 مارس 1920.
قصر البحر : شيد من طرف البرتغاليين سنة 1507، ولعب وقتها دورا كبيرا في تخزين السلاح. ويعد من أبرز وحدات الفن المعماري البرتغالي الذي يتميز بالطابع العسكري للمراقبة والدفاع. مازال يحمل مدافع نحاسية من صنع هولندي تعود إلى القرن 17م وتحمل اسم السلطان مولاي زيدان.
دار السلطان : من بقايا آثار الدولة الموحدية. عرفت عدة تغييرات في العهد البرتغالي وعهد الدولة العلوية. شيدت على ربوة عالية تشرف على جميع واجهات المدينة، وتضم البرج الكبير وقصر الباهية الذي يحتوي على غرفتين للملك سيدي محمد بن عبد الله العلوي. اتخذت دار السلطان كمقر للمتحف الوطني للخزف الذي أسس سنة 1990، توجد به حوالي 300 قطعة فخار من أعمال مدينة آسفي وفاس ومكناس وتامكروت. وتعود أقدم قطعة فيه إلى القرن الثامن عشر من مدينة مكناس.
دار البارود : توجد على بعد 300 م من دار السلطان. كانت مركزا لجمع الذخيرة والمعدات الحربية، تزينها نقوش وزخارف تفصح عن قيمتها المعمارية. وقد أصبحت حاليا متحفا لرحلة راع البحرية.
رباط شاكر : من أقدم الرباطات بالمغرب، ويعود إلى شاكر احد أصحاب عقبة بن نافع الذي تركه فقيها وشيخا وعالما يعلم الناس شعائر الإسلام في أواسط القرن الأول الهجري ؛ وبه بني أول مسجد في المغرب، هدم ثم بني من جديد في نهاية المائة الرابعة على يد احد تلامذته، ويسمى يعلى بن مصلين الركراكي الذي بنى المسجد وقد سميت القبيلة بسيدي شيكر.
زاوية سليمان الجزولي : توجد على شاطئ البحر بجانب قصر البحر، وقد تأسست أواسط القرن التاسع الهجري حيث قصدتها الوفود من كل حدب وصوب حتى وصل العدد إلى اثني عشر ألفا من الأتباع والمريدين.
دار القائد عيسى بن عمر : توجد على بعد 24 كلم من مدينة أسفي، كانت مقر قائد عبدة عيسى بن عمر. تتوفر هذه الدار على عدة قصور ما زال بعضها يحتفظ بشكله الأصلي ويحيط بها سور تهدمت جل أركانه.
مدينة تغالين : نسجت العديد من الحكايات الشعبية حول هذه المدينة، التي يعتقد أنها غارقة على حافة المحيط الأطلسي شمالي مدينة أسفي.يقال إن موقعها بكاب كانتان 24 كلم شمال أسفي بجماعة البدوزة حاليا.تضاربت الآراء والروايات حول تغالين بين من يعتبرها مدينة قرطاجية قديمة أو على الأقل ميناء بناه حانون القرطاجي الذي قام برحلته في القرن 5 ق.م، ومنها وصل القرطاجيون لمنطقة رأس طوليس،كما كانت تسمى قديما، وبنو بها معبد إلههم بوسيدون، إله البحروالعواصف.لكن بعض المؤرخين ذكروا أن القرطاجيين والرومان بنوا عدة مدن ومراكزبالمغرب مثل ليكسوس خلال القرن 12 ق.م، ومدينة تينجيس ق 6 ق.م، ومدينة روصادا بناحية مليلية، وتيما طيريون عند مصب نهر سبو، وميليطيا بين ليكسوس ونهر سبارتل ولم يتم ذكر تغالين.
فهل هي بالفعل مدينة قديمة لها أبعاد فيزيقية ومعالم محددة مغمورة تحت المياه شأنها شأن مدن غارقة معروفة عالميا، مثل أبولونيا في ليبيا القرن 7 ق.م، وفالاسارنا اليونان حوالي 2000 سنة ق.م، وقيسارية في فلسطين ق1م، وكامبي فليجراي في إيطاليا…وبتالي يمكن القول إن تغالين كانت منارا قديما يوجد داخل البحر، وتحطم بفعل العواصف وضربات الأمواج مثلما انهار منار الإسكندرية وخلف وراءه قصصا غريبة. ومن ثمة يمكن القول إن اسم أسفي مشتق، كما يقال، من أسفو التي تعني المنار أو المشعل، أم الأمر مجرد تخيلات أسطورية. فغالبا ما تكون الشعوب المجاورة للبحار مركزا للحكايات القديمة. غير أن برنامج أمودو الوثائقي، الذي بثته القناة الأولى المغربية قام بتاريخ 2005/10/12 بمسح أعماق مساحة 400م للموقع الذي يعتقد أن فيه المدينة الغارقة فلم يعثر على أي شيء يشير لذلك، بل مجرد صخور مشققة وكهوف عادية في حين أن الخيال الشعبي يعتبر ذلك شوارع وأزقة وبيوتا.