عين على ” فاس” بقلم : عزيز لعويسي

admin25 فبراير 2023آخر تحديث :
عين على ” فاس” بقلم : عزيز لعويسي

عين على ” فاس”
بقلم : عزيز لعويسي

في ظل ما نعيشه من سياق اجتماعي مقلق ، تناقلت جملة من المواقع الإلكترونية والمنصات التواصلية ، صورة النائب البرلماني ، ونائب رئيس مجلس مدينة فاس ، ورئيس المجلس الجهوي للسياحة، والفاعل والمستثمر السياحي عزيز اللبار ، وهو في حالة هستيريا، بسبب منعه من حضور اجتماع حول موضوع الاستثمار حضره وزير ، حسب ما أفاد به المعني بالأمر من تصريحات أمام بعض وسائل الإعلام المحلية ، وهذا “المنع” كان بالإمكان ، تفاديه لو حضرت روح المواطنة والمسؤولية والتقدير والتبصر ، وإرادة الوحدة وجمع الشمل الفاسي ، وإذا كان من الصعب إبداء الرأي بشأن ما جرى ، أو الخوض في تفاصيل ما جاء على لسان البرلماني والفاعل والمستثمر المذكور ، من ادعاءات واتهامات ، في غياب المعلومة ، فبالمقابل، نستطيع القول أن الواقعة ، تسمح بإبداء الملاحظات التالية :

– الواقعة كشفت ، عما يتخلل واقع تدبير العاصمة العلمية من مشاهد القلق والتوتر والاحتقان ، ومن صعوبات في التواصل والحوار والتعاون ، بين السلطة وممثلي المواطنين والمستثمرين ؛
– تداعيات الواقعة المتعددة المستويات، على صورة الدولة ومصداقية المؤسسات ؛
– طبيعة السياق الاجتماعي الذي يقتضي تملك ما يلزم من المسؤولية والانضباط والالتزام والرصانة والاتزان ؛
– المساس بمناخ المال والأعمال، في وقت تراهن فيه الدولة على الاستثمار كرافعة لبلوغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية ؛
– رسم صورة مقلقة عن البلد، مقرونة بالتوتر والجدل والعنف والصراع ، بشكل قد يعرقل فرص تدفق الاستثمارات الخارجية ؛ بكل ما لذلك ، من تداعيات على مكانة المغرب، كوجهة مفضلة وجذابة للمستثمرين الأجانب ؛
– تقديم صورة غير إيجابية ، بخصوص واقع الاستثمار بالمغرب ، ومدى توازن واستقرار مناخ المال والأعمال على المستوى الوطني عموما، وبشكل خاص داخل واحدة من أقدم الحواضر المغربية ، وأكثرها تأثيرا في صناعة تاريخ المغرب ؛
– إعطاء انطباع سلبي للخارج، حول واقع الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان بالمغرب ، في سياق تداعيات الحملة التي شنها قبل أسابيع، البرلمان الأوربي على المغرب ، من بوابة حقوق الإنسان ؛
– منح الأعداء وخصوم الوحدة الترابية ، فرصة لممارسة المزيد من التحرش والاستفزاز والاستهداف .

وإذا ما تركنا هذه الاعتبارات جانبا، فمن اللازم التذكير بعدد من الخطب الملكية السامية التي طالما وجهت البوصلة كاملة نحو الاستثمار باعتباره رافعة أساسية لبلوغ وإدراك التنمية بمستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، كان آخرها ما ورد في الخطاب الملكي السامي الموجه إلى أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة، والذي خصص محوره الثاني لموضوع الاستثمار؛

ومن اللازم أيضا استحضار “المفهوم الجديد للسلطة” الذي اطلقه جلالة الملك محمد السادس في الخطاب المؤسس له بالدار البيضاء في أكتوبر 1999، وهذا المفهوم كما ورد في ذات الخطاب – الذي وجه إلى المسؤولين عن الجهات والولايات والعمالات والأقاليم من رجال الإدارة وممثلي المواطنيــن – “مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي. وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة أمام المواطنين، ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان، وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة”؛

وبعيد عن لغة الدعم والتأييد، أو خطاب المعارضة والتنديد، فما جرى بين المستثمر والفاعل السياحي من جهة، والسلطة من جهة ثانية، هو مشهد مقلق، لا يمكن البتة القبول به، اعتبارا للسياق الاجتماعي الراهن، الموسوم بالقلق والتوتر واليأس وانسداد الأفق، والذي يفرض على السلطة تلطيف الأجواء والجنوح نحو آليات الحوار والتواصل البناء مع مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، من أجل تدبير أمثل للنزاعات والخلافات القائمة، بما يخدم مصالح المواطنات والمواطنين، ويحرك عجلة البناء والنماء، ويرفع من منسوب الثقة في الدولة والمؤسسات، واستحضارا لما تواجهه المملكة من مشاهد الاستهداف، ومن ممارسات التحرش والابتزاز والمساومة، من قبل خصوم وأعداء الوطن، وتقديرا لما لأحداث من هذا القبيل، من تأثيرات على ما باتت تحظى به المملكة من مكانة واحترام في العمق الإفريقي، ومن إشعاع إقليمي ودولي.

ما حدث في فاس ويحدث في مدن أخرى، مهما اختلفنا في تحليله أو مقاربة الظروف العامة والخاصة التي أحاطت به، فلابد أن نكون متفقين على أنه شكل ممارسة ماسة بالجبهة الداخلية وتماسكها وانسجامها، التي بدونها يصعب كسب لا معارك التنمية الشاملة، ولا النزالات الدبلوماسية ذات الصلة بالوحدة الترابية للمملكة، وفي هذا الإطار، من الضروري استحضار عدد من الخطب الملكية السامية التي طالما وضعت خيطا رفيعا رابطا بين “قضية الوحدة الترابية للمملكة” وضرورات “تقوية الجبهة الداخلية”، من بينها ما ورد في خطاب الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، الذي أكد فيه جلالته أن “حجر الزاوية في الدفاع عن مغربية الصحراء، هو وحدة الجبهة الداخلية والتعبئة الشاملة لكل المغاربة، أينما كانوا، للتصــدي لمناورات الأعداء”؛

وفي جميع الحالات، وبما أن الواقعة شكلت مدينة فاس مسرحا لها، نرى أن النقاش الحقيقي لابد أن ينصب حول واقع حال مدينة عريقة، تحتضن حيزا مهما من تاريخ المغرب وحضارته الضاربة في القدم، وهذه المدينة، يؤسفنا أنها فقدت الكثير من الجاذبية والتأثير والإشعاع، نتيجة ما شاب تدبيرها المحلي من مشاهد الأنانية المفرطة، ومن ممارسات الجشع واللغط والحسابات السياسوية الضيقة والصراعات الانتخابية ما ظهر منها وما بطن.

وبهذه المشاهد والممارسات، تحولت فاس العريقة إلى ما يشبه حلبة صراع خفي ومعلن، بين من تعاقب عليها من صناع القرار المحلي، وهذا الوضع المقلق، لا يليق البتة، بمدينة شكلت مهد أول دولة إسلامية بالمغرب الأقصى، واحتضنت واحدة من أقدم الجامعات في العالم إن لم تكن من أولها، وشكلت واحدة من العواصم السياسية والإدارية للمغرب إلى جانب مدينتي مراكش ومكناس، واضطلعت بأدوار متعددة الزوايا في معركة النضال من أجل الحرية والاستقلال، ويكفي قولا، أن من رحمها، خرجت وثيقة المطالبة بالاستقلال، بتاريخ 11 يناير 1944، والتي شكلت منعطفا بارزا وحاسما، في ملحمة التحرير والانعتاق من مخالب الاستعمار، وبهذه الحمولة التاريخية والحضارية والتراثية والعلمية والسياسية والإدارية، كان من المفروض، أن تعيش فاس وأهل فاس، وضعا آخرا، يليق ببهائها التاريخي والحضاري والعلمي.

وضع فاس لم يعد يسر الساكنين والزائرين والعابرين على غرار جارتها مكناس، وبقدر ما ندين من حول المدينة إلى حلبة جدل ولغط ونزاع ومصالح وحسابات ووعد ووعيد …، بقدر ما نرى أن العاصمة العلمية والروحية للمملكة، لابد أن تعود إلى ما تستحقه من ريادة وبهاء وإشعاع، احتراما لتاريخها العريق وتقديرا لثرائها الحضاري الضارب في القدم، وهذا المطلب المشروع، لا يمكن أن يتحقق، إلا بالتصدي لصناع العبث بكل أشكاله وتمظهراته، ممن يصرون على بعثرة أوراق المدينة، وانتهاك حرمتها بدون حسيب أو رقيب.

مدينة فاس بعمقها التاريخي وخلفيتها الحضارية والعلمية، تحتاج اليوم إلى مسؤولين حقيقيين، تتوفر فيهم شروط المواطنة الحقة، وما يرتبط بها، من مسؤولية وطنية وتضحية ووفاء ونكـران للذات، ومن استحضار لمصالح المدينة وساكنتها، تحتاج إلى “أبناء فاس” ممن تتوفر فيهم الغيرة على فاس، والرغبة الجامحة في خدمتها والنهوض بأوضاعها، لتسترجع ما تستحقه من قيمة وبهاء وإشعاع وطني ودولي، تحتاج إلى “فاسيين” حقيقيين، قادرين على استرجاع لحمة ساكنة فاس، وتعبئة أبنائها، من الخبرات والكفاءات، ومن الفاعلين السياحيين والاقتصاديين، بما يساعد على خلق مناخ داخلي، آمن ومستقر، تتصارع فيه الأفكار والمبادرات، القادرة على وضع المدينة على سكة الإقلاع التنموي الشامل، بعيدا عن جائحة المؤامرات والدسائس والصراعات والفتن؛

كما تحتاج إلى إدارة ترابية وسلطات منتخبة، قادرة على التحاور والتواصل الفعال، وتمتين الجبهة المحلية، وتوفير مناخ آمن ومستقر للاستثمار، بما يعود بالخير والنماء على فاس وأهل فاس. على أمل أن تتخلص المدينة العريقة من صناع العبث ومثيري القلاقل والفتن، وأي عبث بها وبمصالح ساكنتها، لن يكون إلا عبثا بتاريخ وحضارة وتراث الأمة، وهذا العبث نرى فيه “جريمة”، تفرض “ربط المسؤولية بالمحاسبة” و”تفعيل آليات عدم الإفلات من العقاب”، مع الإشارة أن ما قيل عن فاس، يقال عن جارتها مكناس، التي لم تسلم بدورها من جائحة العبث وعدوى الأنانية المفرطة والحسابات الضيقة …

وقبل أن نختم، نرى أن المرحلة الراهنة، تقتضي طرح أسلحة الجدل واللغط والصراع وتصفية الحسابات وإسقاط الخصوم السياسيين، والجنوح نحو الوحدة ولم الشمل، في إطار من المواطنة والمسؤولية، ونكران الذات والحكمة والاتزان والتبصر، استحضارا للمصالح العليا للوطن وما يواجهه من تحديات ورهانات، واعتبارا للسياق الاجتماعي الراهن، الذي فجر أحاسيس اليأس والتذمر والإحباط والاحتقان في أوساط شرائح واسعة وعريضة من المواطنين، وهؤلاء يحتاجون إلى من يقدم لهم الحلول والبدائل الممكنة، القادرة على معالجة ما باتوا يعيشونه من أزمات اجتماعية، في ظل اشتداد حمى الأسعار وارتفاع مستوى العيش، لا إلى مسؤولين يلعبون دور الكومبارس، أو ينشغلون بصراع الديكة، أو ينعمون بعسل الريع، أو يتربصون بالكراسي والمناصب، بعيدا عن هموم البسطاء وأنين الغلابى …؛

ونختم بالقول: مدينة فاس تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى أبنائها الغيورين، من الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والإعلاميين، ومن العلماء والمفكرين والمثقفين والرياضيين والمبدعين، ممن يتقاسمون حب فاس، ويحملون هم وهاجس تنمية فاس والارتقاء بها إلى مكانة تليق بعمقها التاريخي وإرثها الحضاري والتراثي، ونحن على يقين، أن في فاس “أبناء بررة”، بإمكانهم تعبئة المجتمع الفاسي ولم شمل المنتخبين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، والانخراط الفردي والجماعي في ارتقاء وبهاء وإشعاع مدينة عريقة “أرضها بتتكلم مغربي ..أمازيغي .. عربي .. إسلامي”…، فألف تحية وتحية لفاس ولأهل فاس وجارتها مكناس.. وألف تحية وتحية، لكل من ساهم ويساهم في إشعاع المملكة وبهاء الوطن، بوطنية حقة ومسؤولية ووفاء وإخلاص للثوابت ونكـران للذات …، فاتركوا معشر الفاسييـن ما أنتم فيه من جدل وصراع ونزاع وحسابات ضيقة، وانتبهوا إلى فاس، فبكم تنهض وتحيى، وبكم تذبل وتفنى، فامنحوها فرص النهوض والارتقاء والحياة، فلولاها لما عرفتم “الروح” و”السمو” و”الرفعة” و”الصفاء” و”البهاء” .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة