أصداء مازغان : ذة بشرى الهلالي
تسير الكاتبة في عملها “أكوام في مهبّ الروح” على حافة اللغة، تنقّب عن المعنى في هوامش الحياة، وتعيد تشكيل العالم في شذرات قصيرة، صارمة، وموجعة. بهذا الاختيار الشكلاني، تضع نفسها ضمن تقليد أدبي معاصر يقوم على التكثيف والاقتضاب، وتفتح نصوصها لتأويلات متعددة كما تدعو إليه أحدث نظريات القراءة، وعلى رأسها نظرية التلقي، حيث لا يكتمل النص إلا حين يندمج فيه القارئ ليصير شريكًا في إنتاج المعنى.
يقع الكتاب في 159 صفحة، ويصدر عن دار بصمة للقلم، ويُصنّف تحت خانة “شذرات أدبية”، كما يشير الغلاف. وهذا التصنيف الدقيق يضعنا منذ البداية أمام نص غير تقليدي، لا تحكمه الحبكة أو السرد أو التماسك الزمني، بل تحكمه لحظة الإدراك، لمعة الوعي، ولمسة التأمل الجارح. أما الغلاف، بتصميمه البسيط وكتله البصرية المحكمة، فيؤسس لدلالة بصرية مرافقة للمحتوى: اسم الكاتبة في الأعلى، عنوان العمل بخط مضغوط في المنتصف، كأنما هو يقاوم الريح التي تهبّ على “الأكوام” التي تعبّر عن هواجس الذات وتراكمات الحياة.
منذ الإهداء الذي خصّت به زوجها وابنيها وحفيديها، يتضح أن هذا العمل ليس فقط خلاصة فكر، بل خلاصة تجربة إنسانية طويلة، تُروى في صمت، عبر فواصل لغوية ناضجة. وتأتي مقدّمة الناقد عبد الرحمن الصوفي لتكرّس القيمة الأدبية للنصوص، فلا تظهر الكاتبة كصوت فردي منعزل، بل كصوت يتصل بجوقة واسعة من كتاب الشذرة والومضة والتأمل عبر العالم.
كل نص من نصوص الكتاب يحمل عنوانًا دالًا، يعكس توجهًا فكريًا أو وجدانيًا، ويمهد لمقطع يعبر غالبًا عن لحظة انتباه أو مراجعة حادة للعالم. هذه العناوين ليست مفاتيح تفسير، بل إضاءات خافتة، تترك للقارئ حرية التأويل. واللغة، وإن كانت مكثفة، لا تُجمل الواقع ولا تخشى مواجهته، بل تنزعه من رتابته وتطرحه أمام المتلقي بوجهه الصارم.
في كثير من المقاطع، يتلمس القارئ ثنائية الحضور والغياب، الذاكرة والنسيان، الحياة والموت، لكنها لا تُطرح بأسلوب فلسفي تجريدي، بل عبر نبض شعري شفيف، يتسلل من بين الكلمات ليخلق أثرًا دائمًا في الوجدان. فهنا، ليست الفكرة هي المهمة فقط، بل الطريقة التي تُقال بها.
من منظور سيميائي، يمكن قراءة العمل كنظام من العلامات المتشابكة التي تُنتج دلالة متراكبة. كل شذرة بمثابة علامة، وكل عنوان مفتاح للعبور إلى حقل دلالي جديد. كما يبرز الحس النسائي واضحًا، لا بمعنى الانغلاق داخل خطاب “الأنثى”، بل بمعنى التعبير عن تجربة الحياة من موقع امرأة تراقب، وتستبصر، وتفكك، وتعيد البناء بلغة تخصها وحدها.
تتميّز الكاتبة هنا بقدرتها على جعل الشخصي عامًّا، واليومي فلسفيًّا، والعادي استثنائيًّا. وهذا من أبرز سمات الكتابة الشذرية الناجحة، التي تُحدث أثرًا يفوق حجمها النصي الصغير.
ختامًا…
“أكوام في مهبّ الروح” ليس مجرّد تجميع لشذرات عابرة، بل بناء متكامل لعالم داخليّ عميق، يتجلّى في لغة مقتضبة لكنها مشحونة. هو كتاب للقراءة البطيئة، التأملية، التي تستعيد ما فقدناه في زمن الإيقاع السريع: التأمل، الإنصات، والاعتراف الهامس بالحقيقة.
هو عمل يُقرأ أكثر من مرة، وتظل شذراته تتردّد في ذهن القارئ حتى بعد أن يُغلق صفحاته الأخيرة، كأنها وشوشة من قلب الحياة ذاتها.
عن الكاتبة:
سميرة شرف، من مواليد مدينة مراكش، نشأت في أحد أعرق أحيائها وأغناها دلالة. تنتمي إلى أسرة عُرفت برفعة الأخلاق وثراء ثقافي واجتماعي باذخ، تشكّل فيه وعيها المبكر على قيم الاستقلالية وقوة الحضور. عُرفت في محيطها بقدرتها على تجديد ذاتها باستمرار، وبطاقة إيجابية نفّاذة ألهمت محيطها.
تابعت دراستها العليا بنجاح، وحصلت على الإجازة في الأدب العربي، ثم التحقت بالمركز التربوي الجهوي بمراكش، حيث عاشت سنةً حافلة بالتدريب والتثقيف والعلاقات الإنسانية المؤثرة. تمّ تعيينها لاحقًا بمنطقة “سيدي أبو ينور” بجهة دكالة عبدة، وهناك التقت بتوأم روحها، وأب نوارسها، لتبدأ معه مسيرة كفاح ممتدة من أجل وطنٍ صغير اسمه الأسرة، ووطنٍ أكبر اسمه المغرب.
لا تزال تُوقّع أعمالها باسم “سميرة شرف مزيان” كإيماءة وفاء لرفيق دربها، واعتراف عميق بأنه جزء لا ينفصل عن تجربتها الإنسانية والإبداعية.