كلام في السياسة
بقلم : عزيز لعويسي
أن يصل انحطاط الخطاب السياسي درجة سب المغاربة وإهانتهم والإساءة إليهم بشكل علني، بتوصيفهم بعبارات قدرة مخلة بالحياء الأخلاقي والسياسي، من قبيل “الميكروبات” و”الحمير” و”المراركة”، فهذا الخطاب المأسوف عليه، يصعب إخضاعه لقواعد ومناهج علم السياسة، كما يصعب وضعه تحت مجهر بعض العلوم المساعدة، كعلم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي، وربما فهمه أو استيعابه، يقتضي الاستنجاد بعلم الميكروبات والباكتيريا، وتخصص علم الحيوان، خاصة فيما يتعلق بعالم الحمير والبغال وما فوقها وما تحتها؛
سب المغاربة في تجمع خطابي بمناسبة عيد العمال العالمي، ونعتهم بقبيح الأوصاف والصفات، بمبرر رفعهم لشعار “تازة قبل غزة”، هو مرفوض ومدان بلغة الدين والأخلاق والسياسة والقانون، وبمقياس الوطنية الحقة، وسلوك سياسي منحط، يعكس في شكله ومضمونه، عقيدة جماعات وأحزاب وتنظيمات معلومة، تفضل التغريد خارج السرب، ولا يهمها قضايا الوطن ومصالحه الحيوية والمصيرية، وغير معنية بحجم التحديات التي تواجه الوحدة الترابية للمملكة، أمام جار بئيس، مستعد أن يتحالف مع الشيطان لضرب وحدة المغرب واستقراره وسلامة أراضيه، وغير مقدرة ولا مثمنة، للاختيارات والتوجهات الاستراتيجية للدولة، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، التي تبقى مجالا محفوظا لملك البلاد بحكم الدستور؛
اللجوء إلى سب المغاربة أمام العلن، والركوب على “موجة غزة”، وتحريك ورقة التنديد بالتطبيع، والاصطفاف في خندق ما يوصف بالممانعة والمقاومة، دون اعتبار للقضايا الوطنية، وإنتاج خطاب العنتريات والضغط والابتزاز والتهييج والاستقطاب والمظلومية، هي ممارسات وضيعة مكشوفة، دافعة في اتجاه إحداث الفوضى والاضطراب، وإثارة نعرات الفتن ما ظهر منها وما بطن، تتحكم فيها هواجس الانتخابات القادمة، وأهداف ومقاصد استقطاب الجماهير من أجل عودة ميمونة إلى دائرة الضوء السياسي، أما فلسطين الأسيرة وغزتها الجريحة، فستبقى “موجة ” يركبها الوصوليون والمسترزقون والانتهـازيون، والباحثون عن المكاسب والمنافع والكراسي، بمن فيهم الزعماء الفلسطينيين أنفسهم، الذين جنحوا إلى التفرقة والتشرذم والعداء، بدل طرح النعرات والحسابات الضيقة، والإيمان القطعي بوحدة الصف والكلمة وعدالة القضية ومشروعية الكفاح…
نصرة الوطن وقضاياه المصيرية والاستراتيجية، هي “أم الأولويات” مهما كان الدافع أو الباعث، والانخراط الواعي والمسؤول في بناء الوطن وتحصينه وتقوية قدراته، هو واجب، بالنسبة لكل مواطن تجري في عروقه، دماء “تامغرابيت”، أما “فلسطين”، فهي ليست بسند ملكية ولا بأصل تجــاري يعطي للبعض حق التصرف والاحتكار والترافع، ما دامت محل إجماع رسمي وشعبي، وللأسف، دمرها خطاب العنتريات وفانتازيا الشوارع، وخربها التهــور والاندفاع الانتحــاري، وأزم وضعيتها، كل من أجاد ويجيد استثمـار مآسيها، للحشد والتجييش والاستقطاب واستمالة العواطف، خدمة للأهداف الانتخابوية والمصالح السياسوية الضيقة، بما في ذلك إشهار أوراق الابتزاز والمساومة، ضد الدولة ومصالحها واختياراتها الاستراتيجية.
لا يمكن أن نسلب أي حزب أو جهة أو تنظيم، حق التعبير وإبداء الرأي، لكن في ذات الآن، غير مقبول ألا يتم الانتصار لقضايا الوطن، وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية للملكة، كما غير المقبول، أن يتم فرض الوصاية على المواطنين المغاربة، أو الهجوم عليهم بالسب والإهانة والإساءة والتحقير، لا لشيء، ســــوى لأنهم يضعون قضايا الوطن، فوق كل اعتبـار، بكل ما لهذه العنترية الكرطونية، من إثارة لنعرات التفرقة والانقسام، وتكريس للنفور من العمل السياسي، وفقدان الثقة تماما في القيادات والزعامات الحزبية، التي تنتج خطابا سياسيا متواضعا، لا يليق البتة، بمغرب لم يعد كمغرب الأمس، ولا يتناغم أبدا، مع الاستراتيجية التنموية المتعددة الزوايا، التي يقودها ملك البلاد بصمت وحكمة وتبصر، ولا بحجم التحديات التي تواجه قضية الوحدة الترابية للمملكة.
خطاب “الميكروبات” و”الحمير” و”المراركة”، ينضاف إلى خطاب “التماسيح” و”العفاريت”، و”القرد الشارف” و”الذيب”، و”المداويخ” و”السلكوط” و”نعاود لكم التربية” و”الديبخشي” و”الكلاب”…، وكلها مصطلحات من ضمن أخرى، عكست وتعكس، أزمة حقيقية في الخطاب السياسي، في سياق حزبي، افتقدنا فيه زعامات وقيادات حزبية وازنة ومسؤولة، بحجم عبدالرحيم بوعبيد وعمر بنجلون، وعبدالرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي وعبدالواحد الراضي، وعلال الفاسي وأحمد بلافريج وامحمد بوستة وعباس الفاسي، وأحمد عصمان وعلي يعتة وادريس جطو، وبنسعيد آيت يدر…، وعليه ففي زمن التواضع السياسي وأزمة القيادات والزعامات، لا نستغرب أن يتم الاستنجاد بالمكروبات والحمير والذئاب والكلاب …، للخوض في نزالات سياسوية وانتخابوية عقيمة، تزيد المشهد السياسي بؤسا وتواضعا، ولا نتفاجأ أن يستغل البعض “خريف غزة”، لممارسة الاستقواء والابتزاز والمناورة والهجوم، وإثارة نعرات التفرقة والتشرذم، سعيا وراء مصالح وأهداف سياسوية واضحة.
الرافعون لشعار “تازة قبل غزة”، هو اعتبار للوطن، وانتصار لمصالحه المصيرية وقضاياه الاستراتيجية، وإجماع حقيقي حول هذا المغرب العزيز، وحول ثوابت الأمة الجامعة، وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية، والملكية التي توحدنا وتجمعنا، بكل انتماءاتنا وتناقضاتنا، وأي توجه لا ينتصر لصوت الوطن، ولا لثوابت الأمة المغربية، ولا للاختيارات الاستراتيجية للدولة، هو انحراف سياسي واجتماعي وأخلاقي، دافع نحو الفتن، وخادم بقصد أو بدونه، لأجندات خصوم وأعداء الوطن، والشعار ليس معناه، أن المغاربة ضد فلسطين وغيرها من القضايا الإنسانية العادلة، لكنهم في ذات الآن، ضد كل من حولها إلى ورقة لابتزاز الدولة، والتشويش على اختياراتها وتوجهاتها الاستراتيجية، والإساءة لأبناء الوطن الواحد، وإلى موجة يركب عليها الوصوليون والانتهازيون والمسترزقون …
الرافعون لشعار “غزة أولا وأخيرا” ولا يهمهم الوطن في شيء، والذين أجسادهم هنا داخل الوطن، ومشاعرهم هناك مع الحركة ورموزها وقادتها، والذين لايجدون خجلا أو حياء، في ابتزاز الدولة والمؤسسات، وإحداث الفتنة في الشوارع وتخوين أبناء الوطن وإهانتهم، وتهديد المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد، تحت يافطة “نصرة غزة” و”الدفاع عن الدين” و”التنديد بالتطبيع”، نذكرهم أن الوطن أولى بالنصرة وأحق بالتضامن والولاء، كما نذكرهم أن السعي العمدي لاستهداف المصالح الاقتصادية الوطنية، أو الإساءة للأصدقاء والشركـــاء الاستراتيجيين للمملكة، هي تصرفات متهــورة، مضرة بالدولة ومصالحها الحيوية والاستراتيجية، ولا تليق البتة، لا بالظرفية الحساسة التي تمر منها قضية الوحدة الترابية، ولا بحجم المكاسب الدبلوماسية، ولا بوزن الشراكات والمبادرات الاستراتيجية، التي انخرط فيها المغرب، تحت القيادة الرشيدة لملك البلاد حفظه الله ورعاه، ونذكرهم قبل هذا وذاك، أن المغاربة، ملتفون حول الوطن، ومجمعون على الثوابت الجامعة للأمة، ومخلصين للشعار الخالد: الله .. الوطن.. الملك، ولن يقبلوا البتة، بأية وصاية مهما كان منبعها، منددين بأي استغلال وضيع، للدين وللقضية الفلسطينية، لتحقيق أهداف ومصالح انتخابوية وسياسوية ضيقة.
خطاب “الميكروبات” و”الحمير”، بقدر ما يجعلنا نفقد الثقة تماما في الكثير من الزعامات والقيادات الحزبية والسياسية، المنشغلة فقط، بالركض وراء المكاسب والمصالح والمنافع، بقدر ما يقوي ثقتنا في ملك البلاد، الذي حول المغرب إلى “قوة ناعمة” صاعدة، في محيط إقليمي موسوم بالقلق والتوتر وعدم الاستقرار، ومطبوع بالكثير من التحديات الأمنية والتنموية والببيئية .. ملك يحتاج إلى مسؤولين ورجــالات دولة حقيقيين، مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والاستقامة والمسؤولية، والتبصر والتفاني في خدمة الوطن وقضاياه المصيرية، والانخراط الذي لا محيد عنه، فيما أطلقه من مبادرات تنموية واستراتيجية مبدعة ومبتكرة، مكرسة لريادة المملكة في محيطها الإفريقي، لا إلى مسؤولين وقيادات وزعامات، منتجة لخطاب التبخيس والتيئيس، وصانعة لثقافة التفرقة والخلاف والصدام، ومعرقلة للاختيارات الاستراتيجية للدولة.
وفي المجمل، فمن أراد اكتساح الانتخابات القادمة والعودة إلى دائرة الضوء السياسي، عليه أولا، أن ينضبط لثوابت الأمة ويحترم التوجهات والاختيارات الاستراتيجية للدولة، وعليه ثانيا، أن يقدر المغاربة ويحترم ذكاءهم الديني والسياسي، ويسعى بطرق مسؤولة ومشروعة إلى استمالتهم، ببرامج ومشاريع حقيقية واختيارات تنموية واضحة، وليس باستغلال الدين أو الركوب على “الموجة الغزاوية” أو اللعب على “ورقة التطبيع”، فالدين ليس حكرا على أي حزب أو حركة أو جماعة، و”فلسطين” وقضيتها العادلة، ليست بسند ملكية ولا بأصل تجاري، يمنح للبعض دون البعض الآخر، حق الوصاية وسلطة توزيع صكوك “الميكروبات” و”الحمير” … فعاش الوطن ولا عاش من خانه، ولا عاش من يسعى إلى هدمه وخرابه، خدمة لأجندات الخصوم والأعداء المكشوفين والمخفيين…، ومن أراد “غزة”، فهي مثل روما، كل الطرق والمسالك تؤدي إليها …