مدرستي الحلوة ..
بقلم : عزيز لعويسي
القواعد القانونية في مجملها، سواء أنتجها البرلمان، أو مررتها الحكومة في إطار سلطتها التنظيمية، تبقى لا قيمة لها، إذا لم تستوعب خصوصيات الفئة أو الفئات المستهدفة منها، وإذا لم تنجح في تحقيق غايات الأمن القانوني، وما يدور في فلكه من إجماع واستقرار وثبات واطمئنان وإحساس جمعي بالعدالة والإنصاف، وهو ما لم يتحقق في المرسوم المؤطر للنظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية، الذي أثار حالة غير مسبوقة من الرفض والجدل والاحتقان في أوساط نساء ورجال التعليم، لأنه “من الخيمة خرج مايل”، ولم يراع واضعوه لا الكرامة ولا خصوصيات الفئات المستهدفة، ولا حجم ما تعانيه من احتقان طال أمده، ولا حساسية القطاع الذي يعد مدخلا لأية نهضة تنموية مأمولة؛
واضعو نظام المآسي حسب عدد من التوصيفات، بتسرعهم وسوء تقديرهم وربما بنواياهم غير البريئة، أنتجوا مرسوما على المقاس، فاقدا لأدنى شروط التوقع والتبصر، والنتيجة موجة من الاحتقان، أدخلت المدرسة العمومية في حالة من الشلل، أججت جمر الاحتقان، في سياق داخلي صعب، موسوم بالتضخم وغلاء الأسعار وصعوبات العيش، وسياق خارجي مطبوع بالقلق والتوتر، وهذا الواقع التربوي المقلق، يفترض أن يرفع فيه سلاح “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، في وجه من تسبب في هذا الانزلاق التشريعي الفاقد للبوصلة، ومن أدخل المدرسة العمومية في هذا الاحتقان المأسوف عليه، ومن أدخل البلد بسوء تقديره وضعف تبصره، في وضعية مقلقة، مهددة للنظام العام والسلم الاجتماعي، في لحظة اجتماعية وسياسية، تقتضي تمتين اللحمة الوطنية وتدعيم الجبهة الداخلية، لمواجهة مختف الرهانات والتحديات المطروحة، وتستوجب الالتفاف الفردي والجماعي حول ورش إصلاح المدرسة الوطنية العمومية، التي بدونها لا تستقيم تنمية ولا يستوي إصلاح؛
رئيس الحكومة عزيز أخنوش، وبعد أن خطا الخطوة الأولى في اتجاه الحل، باستقباله للنقابات التعليمية وإبدائه الرغبة في تجويد المرسـوم المثير للجدل، نأمل أن يكون ليس فقط، وفيا لما وعد به أسرة التعليم من التزامات وتعهدات في سياق الحملة الانتخابية، بل والدفع بمعية الشركاء الاجتماعيين، في اتجاه مراجعة شاملة لنظام أساسي أتى معيبا، لا من حيث السياق العام الذي تزامن وتداعيات الزلزال المرعب الذي ضرب الحوز ومناطق أخرى، ولا من حيث ما حمله من مواد ومقتضيات انتصرت لفلسلفة الزجر والوعيد والعقاب، عوض الانتصار لثقافة التحفيز والتشجيع والترغيب والتحبيب والإنصاف والمساواة؛
نأمل أن تكون الحكومة ورئيسها، في مستوى هذه اللحظة الاستثنائية التي تمر منها المدرسة العمومية، وتتملك ما يلزم من المسؤولية والالتزام، وما يكفي من الجدية التي شكلت الحجر الأساس لخطاب العرش الأخير، فليس عيبا أن تبادر إلى سحب المرسوم الذي أشعل جمر الاحتقان وإرجاعه إلى طاولة الحوار والتفاوض، ولا خجلا أن يتم إخضاعه إلى مراجعة شاملة تحمل ما يبحث عنه نساء ورجال التعليم من كرامة وتقدير واعتبار، في معركة نضالية لايمكن البتة التعامل معها بمنطق “لي الذراع” ولا بمنطق “الاستقواء والتركيع والترويع”، وحدها الإرادة السياسية المعزولة عن نعرات السياسة وهواجس التوازنات المالية، قادرة على تجاوز هذه “المحنة التعليمية”، وتحويلها إلى “منحة” تنبثق معها، معالم نظام أساسي حقيقي يحظى بالقبول والإجماع؛
وفي المجمل، فالحكومة الاجتماعية باتت اليوم بين “مطرقة الشغيلة التعليمية” و”سندان آباء وأمهات وأولياء التلاميذ”، ولم يعد أمامها إلا التحلي بالشجاعة السياسية لتذويب جليد الاحتقان المدرسي، واستثمار ما هو ممكن ومتاح من الحلول القانونية والتنظيمية، لتمكين الشغيلة التعليمية، من نظام أساسي عصري محفز ومنصف وموحد، يعيد للمدرس هيبته وكرامته الضائعة، وللمدرسة العمومية، وضعها الاعتباري داخل المجتمع؛
وفي ظل حالة الاحتقان التعليمي المستشري وما له من آثار تربوية وأسرية ومجتمعية وأمنية واستراتيجية، بات من باب الاستعجال، العودة إلى طاولة الحوار والتفاوض بدون قيد أو شرط مع الفاعلين الاجتماعيين، لأن مصلحة المدرسة العمومية والمصلحة الفضلى للأساتذة والتلاميذ على حد ســـواء، لا يمكن البتة، أن تقاس بمرسوم، لابد أن نعترف أنه لم يكن في مستوى التطلعات وحجم الانتظارات، مهما حاول البعض تلميعه وإبراز محاسنه ومفاتنه، بدليل ما أحدثه في الساحة التعليمية، من بؤرة “احتقانية” عميقة، وصلت ارتداداتها حتى دائرة آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، الذين خرجوا إلى الشوارع مثنى وثلاث ورباع ..، محتجين مدافعين عن حق أبنائهم في التعلم، وعن حق من يعلمونهم في الكرامة الضائعة،
على أمل، أن نكون جميعا في مستوى هذا الامتحان التربوي الشاق ونخرج منه ليس فقط بأقل الأَضرار الممكنة، ولكن أيضا، بوضع المدرسة العمومية على سكة إصلاح حقيقي، يقطع مع إصلاح العبث، على أمل أن ننام جميعا ونصحو على نشيد طالما رددناه في زمن جميل كانت فيه مدرسة شامخة، كان فيها المعلم هو الباني والمبدع والسراج المنير.. نشيد “مدرستي الحلوة .. مدرستي الحلوة ..”، على أمل أن نشتغل ونحيى داخل مدرسة حلوة، بفضاءاتها وأنشطتها ومناهجها وبرامجها ووسائلها.. مدرسة حلوة تمنح المعلم إرادة شعب بأكلمه، وترسم على كراسة التلاميذ، أفقا رحبا للأمل والحلم والخلق والإبداع والخيال.. مدرسة حلوة للجميع وليس فقط لأبناء الطبقات الغنية والميسورة، .. مدرسة حلوة كتب على جدرانها .. كاد المعلم أن يكون رسولا …
احترموا المعلم رجاء .. فهو كل شيء وبدونه لا شيء .. امنحوه فقط، الثقة والتحفيز والاعتبار، ليعيش ويحيى ويبدع بإتقان، ليكون سمكة رشيقة داخل الحجرة الدراسية، تسبح بأناقة وشموخ، بــدون قيد أو تحكم أو وعيد أو تهديد أو ترهيب ..فلا تهددوه بعقوبات ثقيلة، تضعه في خانة المجرم، ولا تحملوه أعباء فشل أنتم منتجوه وصانعــوه، ولا تثقلوه بمهام جسيمة، فما هو إلا إنسانا فوق طاقته لا يـــلام.. ولا تشهروا في وجهه سيف “الاقتطاع من الأجر”، بسبب نضالات مشروعة هروبا من “حكرة” أنتم مكرسوها ومرسموها ..
امنحوه فرصة ليبني الوطن .. فهو من علم الناس جميعا، كيف يمسكون القلم، وكيف يحترمون السطر وكيف يحسنون قواعد النحو والإعراب، وكيف يتلون قوله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق..”.. بل وكيف ينشدون ويسعدون ويرددون ببراءة وشمـوخ .. مدرستي الحلوة .. مدرستي الحلوة ..، مدرسة حلوة كنا نشتاق للارتماء في أحضانها في زمن الفقر والعوز، لنجدد المحبة والوصال مع معلمين كنا نقدرهم ونحترمهم حد التبجيل ما لم نقل التقديس .. أما اليوم، فقد ذاب السكر الحلو تماما، ولم تبق إلا مدرسة يتيمة، باتت عنوانا للبؤس ومختبرا للتجارب الفاشلة، وساحة للكر والفر والوعد والوعيـد، تفصلها مسافات زمنية عن الجودة والجاذبية، واختيارا لامحيد عنه، لأبنــاء الطبقات الفقيرة والمعــوزة … ارحموا المدرسة العمومية رجاء، لتكون مدرسة حلوة لنا كمعلمين ولأبنائنا كمتعلمين … ولوطن عزيز بمدرسة حلوة، يرتقي بين الأمم ويسمو بين الأوطان ..