مساطر تدبير الأرشيف العمومي
بقلم : عزيـز لعويسي
في زمن مضى، كان الأرشيف العمومي عرضة لكافة ممارسات الإقصاء أو الإتلاف، من سرقات وحرق وتقطيع وغير ذلك من الممارسات المشابهة، وفي أحسن الحالات، كان يتم التخلص منه في أقبية الإدارات والمؤسسات، في ظروف حفظ، لا صوت يعلو فيها على صوت التهميش والتبخيس، بشكل فرض على الوثائق الأرشيفية، أن تعيش ما يشبه حالة “الموت السريري”، في ظل سياقات سياسية وإدارية، كان فيها الأرشيف خاضعا لسلطة العناد والعبث والمزاج، في غياب سلطة القانون. واليوم تغير الواقع نحو الأفضل، وتغيرت معه الطباع والعادات الأرشيفية القديمة، بعد أن تم إخضاع البيت الأرشيفي العمومي إلى سلطة القانون، بإصدار القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007)، والمرسوم عدد 2.14.267 الصادر لتطبيقه (04 نونبر 2015)، وبإحداث مؤسسة وطنية عمومية للسهر على تنفيذ مقتضياته وأحكامه (أرشيف المغرب)؛
واعتماد إطار قانوني ومؤسساتي منظم للأرشيف، ليس معناه أن صحة الأرشيف العمومي قد وصلت إلى درجة مأمولة من السلامة والمعافاة، بل لا زالت صور ومشاهد الارتباك الأرشيفي، تحضر بمستويات ودرجات متفاوتة في أوساط إدارات ومؤسسات الدولة والجماعات الترابية، بشكل بات يدعو إلى القلق على المستوى الرسمي، إذا ما استحضرنا تداعيات هذا الارتباك، على تاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، مما استعجل إصدار المنشور الحكومي رقم 2024/2 في شأن “إتـلاف الأرشيف بإدارات الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية” (4 مارس 2024)، بناء على ما خلصت إليه مؤسسة أرشيف المغرب، في إطار إعدادها للاستراتيجية الوطنية لحفظ وتثمين التراث الأرشيفي الوطني 2023-2033- . وعليه، ومن باب الإسهام في التوعية الأرشيفية، ومن زاوية تقريب الفاعلين في مجال الأرشيف في أوساط إدارات ومؤسسات الدولة والجماعات الترابية، من الشق “العملياتي” و”الإجرائي” المرتبط بتدبير الأرشيف العمومي، سنحاول عبر هذا المقال، توجيه البوصلة نحو مسطرة تدبير الأرشيف، وخاصة فيما يتعلق بمسطرة الاتلاف، التي تعد حجرة الزاوية في أية ممارسة أرشيفية مسؤولة وواعية ومتبصرة.
أولا: تدبير الأرشيف العادية والوسيطة:
لابد من الإشارة ابتداء، أنه وقبل الشروع في عمليات تنظيم الأرشيف، لابد من مباشرة بعض الإجراءات التمهيدية، التي تروم في مجملها “تشخيص الوضع” (دراسة تعتمد على الملاحظة/ المعاينة والتحليل)، بهدف تكوين نظرة عامة عن رصـيد الإدارة (حجمه، معالجته، ترتيبه)، والموارد المخصصة لتدبير الوثائق المكونة له، وتقييم حاجيات الإدارة، بخصوص الموارد المالية والمادية والبشرية اللازمة لتدبير رصيدها الوثائقي، وتعتمد عملية “تشخيص الوضع” على جملة من الأدوات، من قبيل “الملاحظة المباشرة” و”الاستمارة” و”المقابلة المباشرة” و”الجرد المادي”…(الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي، ص 19 وما بعدها).
تدبير الأرشيف:
بمقتضى المادة الخامسة من القانون المتعلق بالأرشيف، يجب على إدارات ومؤسسات ومقاولات الدولة والجماعات الترابية والهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة، أن تقوم بتعاون مع “أرشيف المغرب”، بإعداد وتنفيذ برنامج لتدبير أرشيفها العادية والوسيطة، وهذا البرنامج يحدد “الهياكل والوسائل والإجراءات التي تمكن من تدبير الوثائق من يوم إحداثها إلى تاريخ تصنيفها النهائي في مصلحة أرشيف عامة أو تاريخ إتلافها”، وقد حددت المادة السادسة من المرسوم التطبيقي، عمليات تدبير الأرشيف في “الجرد” و”التصنيف” و”الاستغلال” و”التثمين” و”الفرز” و”الرقمنة” و”تحويله ” إلى أرشيف المغرب”، أو “إتلافه” حسب الحالة، وهذه العمليات، يجب أن تتم وفق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في الدليل المرجعي، مع مراعاة مقتضيات قانون الأرشيف ومرسومه التطبيقي.
أدوات تدبير الأرشيف العادي والوسيط:
الإدارات والمؤسسات والهيئات المعنية، يتعين عليها حسب مقتضى الفقرة الثانية من المادة التاسعة من قانون الأرشيف، إعداد جدول لتصنيف الوثائق وجدول زمني لحفظها:
– جدول تصنيف الوثائـق: يعد إجباريا بموجب المادة الثامنة من المرسوم التطبيقي، وهو “عبارة عن نظام تتم صياغته بناء على وظائف وأنشطة الإدارة، ويمكن من تنظيم الأرشيف الجاري والوسيط بطريقة تراتبية من العام إلى الخاص” ، ويساهم في نجاعة أداء الإدارة لمهامها وأنشطتها، حيث يخول لها “توحيد نظام وطريقة تصنيف الوثائق”، و”ترتيب الملفات حسب تسلسل منطقي”، و”تيسير الولوج إلى المعلومة”، و”ضمان استمرارية الأنشطة الإدارية في حالة حركية الموظفين والمستخدمين” (الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي، منشورات أرشيف المغرب، ص 21، 2017)، ويتم إعداد هذا الجدول، وفق النموذج المحدد في الدليل المرجعي، ويتضمن “عناصر تعريف كل وثيقة” أو “مجموعة من الوثائق” و”ترتيبها” و”ترميزها” من أجل تحديد مصدرها ومكان إيداعها، ويتعيـن عند إعداده أو تحيينه، مراعاة طبيعة مهام وأنشطة الإدارة أو المؤسسة المعنية، ويجب أن يكــون سلسا وقابلا للتعديل، ليواكب التغيرات التي قد تطرأ على الإدارة؛
-الجدول الزمني للحفظ: يحدد مدة حفظ الوثائق إما بصفتها أرشيفا عاديا أو أرشيفا وسيطا، كما يحدد المآل النهائي لهذه الوثائق، إما بتحويلها إلى مؤسسة أرشيف المغرب، باعتبارها أرشيفا نهائيا، أو بإتلافها حسب الحالة، وتحدد مدة الحفظ، أخذا بعين الاعتبار بصفة خاصة “الآجال التي تحددها النصوص التشريعية أو التنظيمية الخاصة الجاري بها العمل”، و”طبيعة القطاع المنتج للوثائق المراد حفظها”، و”مضمون الوثائق وقيمتها”، بالإضافة إلى كـون إعداد هذا الجدول، يعد امتثالا لمقتضيات القانون المتعلق بالأرشيف ولأحكام مرسومه التطبيقي، فهو يهدف إلى عقلنة تدبير الأرشيف، من خلال “توحيد قواعد الحفظ” و”تقنين عملية الإتلاف” و”عقلنة تدبير فضاءات وتجهيزات الحفظ”، فضلا عن “تخفيض تكاليف الحفظ”(الدليل المرجعي، ص 24)، مع ضرورة الإشارة إلى أن الجداول الزمنية للحفظ، عند إعدادها أو بعد تحيينها، يجب أن تعرض على مؤسسة أرشيف المغرب للمصادقة عليها (المرسوم التطبيقي، المادة 9)، وعقب ذلك، تنشر في الجريدة الرسمية، بموجب قرار يتخذه رئيس الإدارة المعنية (المادة 11)؛
أما الوثائق التي أصبحت أرشيفا وسيطا بموجب الجدول الزمني للحفظ المتعلق بها، يجب أن تودع في مستودعات خاصة، تحترم معايير وشروط حفظ الوثائق المنصوص عليها في الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي (المادة 10)، وعملية تحويل الأرشيف هي “عملية إدارية تنتقل بموجبها مسؤولية تدبيـر الأرشيف من الوحدة الإدارية التي شكلته، إلى البنية الإدارية المكلفة بالأرشيف، والتي تتولى حفظه في مستودعات الأرشيف الوسيط للإدارة”، وتستند العملية أساسا، إلى “بيان تحويل الأرشيف الجاري إلى مستودعات الأرشيف الوسيط”، وهذا البيان عبارة عن وثيقة تتضمن “وصفا لمحتوى الأرشيف المراد تحويله”، ويكتسي “طابع الحجية”، لأنه يعتبر بمثابة دليل على القيام بعملية التحويل، وضمانة لانتقال المسؤولية على الأرشيفات المحولة، من الوحدة الإدارية المعنية إلى البنية الإدارية المكلفة بالأرشيف.(الدليل المرجعي، ص 34)،
من باب الملاحظة، نرى أن المشرع الأرشيفي، لم يقيـد يد الإدارة فيما يتعلق بإعداد الجدولين المذكورين، بل منحها هامشا من التصرف، مراعاة لطبيعتها ومهامها وأنشطتها، بما في ذلك “مدة الحفظ”، التي يجب أن تراعى في تحديدها، عناصر مرتبطة بالآجال التي تحددها النصوص التشريعية والتنظيمية الخاصة الجاري بها العمل، وطبيعة القطاع المنتج للوثائق، فضلا عن مضمون الوثائق وقيمتها، وإذا كــان هذا التصرف، له ما يبرره من ناحية المبدأ، بالنظر إلى خصوصيات كل إدارة أو مؤسسة، خاصة إذا كانت ذات طابع أمني أو استخباراتي، فإنه قد يطرح على المستوى الإجرائي، بعض الصعوبات التي قد تعيق مهمة إعداد الجدولين، على مستوى حدود هذه الخصوصيات، وخطوط التماس بين الوثائق التي يجب إدراجها في جدول الحفظ، وتلك التي تقتضي نوعا من التحفظ، والمرجعيات القانونية والتنظيمية المتدخلة (قانون الأرشيف، النصوص التشريعية والتنظيمية الخاصة)، دون إغفال ما يعتري بعض الإدارات، من بيروقراطية صارمة، يصعب أمامها، بالنسبة للرؤساء المباشرين اتخاذ القرار الأرشيفي في حينه، ما لم يتم التوصل برأي الرؤساء الجهويين وربما المركزيين، وبدون شك، فإن جليد “الخصوصية” قد يذوب جزئيا أو كليا، إذا ما استحضرنا أن “الجداول الزمنية للحفظ” تعرض على مؤسسة “أرشيف المغرب” للمصادقة، سواء عند إعدادها أو بعد تحيينها، والتي تبقى صاحبة القرار النهائي في قبول هذه الجداول من عدمه.
ثانيا: فرز وإتلاف الأرشيف:
فرز الأرشيف:
تتم عملية فرز الوثائق بقصد تحديد ما ينبغي حفظه منها نهائيا، وما يتعين إتلافه منها، وذلك وفق معطيات الجدول الزمني للحفظ (قانون الأرشيف، المادة 10)، وطبقا لإجراءات مرتبطة ب “التأكد من المآل النهائي للوثائق وفق الجدول المذكور”، و”حصر الوثائق التي يتعين تسليمها إلى مؤسسة أرشيف المغرب، قصد حفظها نهائيا”، و”حصر الوثائق التي يتعين إتلافها”، وهذه العملية تتم من طرف الإدارات والمؤسسات المعنية، وذلك بتنسيق مع مؤسسة أرشيف المغرب ( المرسوم التطبيقي، المادة 12)؛
إتلاف الأرشيف:
يتعين على الإدارات والمؤسسات والهيئات المعنية، إتلاف الوثائق التي اتخذ قرار بذلك في شأنها، بناء على معطيات الجدول الزمني للحفظ، وتضمـن جميع الوثائق المقرر إتلافها في وثيقة تسمى “بيان الإتلاف” (القانون المتعلق بالأرشيف، المادة 13)، وتتم عملية الإتلاف تحت “المراقبة التقنية لمؤسسة أرشيف المغرب”، وفق عدد من الإجراءات (المادة 14) تم التطرق إليها بتوضيح في الدليل المرجعي، سواء تعلق الأمر بإتلاف الأرشيف العادي (رسم توضيحي، ص33)، أو بإتلاف الأرشيف الوسيط (رسم توضيحي، ص 43):
أ- إجراءات إتلاف الأرشيف العادي:
– تعبئة بيان الإتلاف: بعد إجراء عملية الفرز، يتم تسجيل الوثائق الواجب إتلافها في “بيان الإتلاف” الذي يتم إعداده في نظيرين اثنين؛
– الحصول على تأشيرة الإتلاف: إرسال نظيري البيان، بعد التوقيع عليهما، إلى البنية الإدارية المكلفة بالأرشيف للتأشير عليهما، وفي حالة مطابقة البيان لمعطيات الجدول الزمني للحفظ، تقوم البنية المكلفة بالأرشيف بالتوقيع عليهما، وإرجاع أحد النظيرين إلى الوحدة الإدارية، وفي حالة عدم المطابقة، يتم إرجاع البيان إلى الوحدة الإدارية قصد التصحيح؛
– تحديد تاريخ الإتلاف: الاتفاق على تاريخ الإتلاف بين الوحدة لإدارية والبنية الإدارية المكلفة بالأرشيف؛
– إتلاف الأرشيف: القيام بإتلاف كلي للأرشيف في بيان الإتلاف، وذلك في التاريخ المحدد؛
– التوقيع على محضر الإتلاف: إعداد محضر الإتلاف في نظيرين والتوقيع عليهما، مع احتفاظ كل طرف بنظير من المحضر؛ مع ضرورة الإشارة إلى أنه ولأسباب بيئية واقتصادية، يستحن اللجوء إلى “التدوير” لإتلاف الأرشيف.
ب- إجراءات إتلاف الأرشيف الوسيط:
– تحضير بيان الإتلاف: يتم تسجيل الوثائق الواجب إتلافها في بيان الإتلاف الذي يتم إعداده في نظيرين اثنين، وإرسال نسخة منه، إلى الوحدة الإدارية المعنية بالوثائق موضوع الإتلاف، قصد الاطلاع عليه؛
– الحصول على تأشيرة الإتلاف: إرسال نظيري البيان، بعد التوقيع عليهما، إلى مؤسسة أرشيف المغرب قصد المصادقة عليهما، حيث لم التأكد من مطابقة بيان الإتلاف لمعطيات الجدول الزمني للحفظ، وحالة المطابقة، يتم التوقيع على نظيري البيان، وإرجاع أحدهما إلى الإدارة المعنية؛
– تحديد تاريخ الإتلاف: الاتفاق بين “البنية الإدارية المكلفة بالأرشيف” و”مؤسسة أرشيف المغرب” على تاريخ الإتلاف؛
– إتلاف الأرشيف: تتولى البنية الإدارية للأرشيف ترتيب الأرشيفات الموجهة للإتلاف، وفي إطار التنسيق مع مؤسسة أرشيف المغرب، يتم التحقق من مطابقة الأرشيفات الموجهة للإتلاف لما هو وارد في البيان “المؤشر عليه”، ثم القيام بإتلاف كلي للأرشيف المضمن في بيان الإتلاف، وذلك في التاريخ المحدد، والتوقيع على محضر الإتلاف، في نظيرين، مع احتفاظ كل طرف بنظير منه.
ثالثا: تسليم الأرشيف النهائي لمؤسسة أرشيف المغرب:
يتعين على الإدارات والمؤسسات والهيئات المعنية، تسليم الأرشيف الذي أصبح نهائيا بموجب الجدول الزمني للحفظ، إلى مؤسسة أرشيف المغرب، وتضمن العملية في وثيقة تسمى “بيان التسليم” توقع بصفة مشتركة بين الجهة المعنية ومؤسسة أرشيف المغرب” (الفقرة الأخيرة من المادة العاشرة من القانون المتعلق بالأرشيف)، وتسليم الأرشيف هو “عملية إدارية تنتقل بموجبها مسؤولية تدبير وحفظ الأرشيف من الإدارة المسلمة، إلى مؤسسة أرشيف المغرب، أو إلى أية مصلحة عمومية أخرى مختصة، وتتم العملية استنادا إلى معطيات الجدول الزمني للحفظ” ، وفق إجراءات خاصة (الدليل المرجعي، ص 44):
على مستوى الإدارة المسلمة: تتم إجراءات تصنيف وتلفيف الأرشيف، ووصف محتوى علب الأرشيف والتعريف بالعلب، إضافة إلى تعبئة “بيان التسليم”، ونقل الأرشيف إلى المكان التي تحدده أرشيف المغرب في التاريخ المتفق عليه؛
على مستوى أرشيف المغرب: تباشر المؤسسة عدة إجراءات وتدابير من قبيل “مراقبة حالة الأرشيف” و”مراقبة تطابق التسليم لما هو مضمن في البيان”، إضافة إلى “التحقق من بيان التسليم”، ثم “التأشير عليه “بعد ترقيمه وإسناده تاريخ إجـراء التسليم، مع إعادة بيان التسليم “المؤشر عليه” إلى الإدارة المعنية، والاحتفاظ بنظيرين منه، قصد استكمال إجراءات الضبط والتوقيع؛
وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسة الأرشيفية، يمكن لها أن ترفض بقرار معلل، عمليات التسليم التي لا تتقيد بالأحكام التنظيمية المذكورة (المادة 17 من المرسوم التطبيقي)، وتطبيقا لمقتضيات المادة 11 من القانون المتعلق بالأرشيف، يعهد “بصفة استثنائية” إلى بعـــض المصالح المختصة التابعة للإدارات أو الهيئات أو المؤسسات المعنية، بحفظ أرشيفها الذي صار نهائيا طبقا للجدول الزمني للحفظ في الحالتين التاليتين:
– الحالة الأولى: إذا كانت طبيعة الأرشيف موضوع الترخيص تبرر ذلك؛
– الحالة الثانية: إذا كانت المصالح المختصة المعنية، تتوفر على الإمكانيات التقنية الخاصة، لمعالجة أرشيفها وحفظه وإتاحة الولوج إليه. علما أن هذا الترخيص يمنح بناء على “طلب معلل” يوجه إلى أرشيف المغرب، وفي حالة رفض هذه الأخيرة منح الترخيص، يتعين عليها تعليل قرارها (المادة 19 من المرسوم التطبيقي)؛
والجهة المرخص لها بحفظ أرشيفها النهائي بمستودعات تابعة لها، تبقى ملزمة بالتقيد بأحكام القانون المتعلق بالأرشيف والنصوص الصادرة لتطبيقه، والمتعلقة بالأرشيف النهائي، والالتزام باحترام المعايير التي تعدها مؤسسة أرشيف المغرب، بشأن الأرشيف النهائي والأرشفـة، مع ضرورة إرسالها، لجرد كامل للأرشيف النهائي المرخص لها بحفظه، مرفق بنسخ رقمية من هذا الأرشيف، إلى أرشيف المغرب، التي تضطلع بدور القيام بزيارات ميدانية لمستودعات الحفظ وللأماكن التي يتاح فيها الاطلاع عليه، للتأكد من مدى التقيد بالالتزامات، تحت طائلة سحب الترخيص المخول لها. (المرسوم التطبيقي، المادة 21)؛
وفي هذا الصدد، وعلى الرغم من أن القانون المتعلق بالأرشيف، ألزم الإدارات والمؤسسات والهيئات والجماعات الترابية، بتسليم أرشيفاتها النهائية إلى مؤسسة أرشيف المغرب، فإن هذا المقتضى يبقى حسب تقديرنا، معطلا إلى أجل غير مسمى، لاعتبارات واقعية وموضوعية، مرتبطة بعدم توفر المؤسسة حتى اليوم، على مقر عصري لائق، يستجيب لشروط ومعايير حفظ الأرشيف، وفي ظل هذا الوضع، يصعب ما لم نقل يستحيل عليها، تسلم جميع الأرشيفات النهائية الواردة عليها من مختلف الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، مما يساهم في تراكم الأرشيفات على مستوى الجهات المنتجة لها، بكل ما لذلك من تأثيرات مباشرة على أمن وسلامة الأرشيفات؛
والحل يكمن بدون شك، في انخراط هذه الجهات، في إعداد جداول زمنية للحفظ، تيسر عمليات إتلاف الأرشيفات، لتخفيف الضغط على مكاتب وأماكن حفظ الأرشيف، كما يكمن أيضا، في انخراط كل قطاع وزاري في أجرأة وتنزيل مقتضيات المواد الأولى والرابعة والخامسة من المرسوم التطبيقي، التي نصت على إحداث بنيات إدارية متخصصة في الأرشيف لدى إدارات الدولة، يسهر عليها الكاتب العام للقطاع الوزاري المعني، وفي هذا الإطار، كانت وزارة العدل، من القطاعات الوزارية السباقة لتنفيذ هذه المقتضيات، وذلك من خلال إحداثها للمراكز الجهوية للحفظ، والتي تعد تجربة رائدة في مجال تدبير الأرشيف العمومي، لما لها من أدوار في تخفيف الضغط على محاكم المملكة، وحفظ وصون التراث الأرشيفي القضائي، وفق طرق وأساليب حديثة؛
رابعا: حفظ الأرشيف:
الاهتمام بالعمليات المرتبطة بتدبير الأرشيف العادية والوسيطة وما يرتبط بهما من فرز وإتلاف وتسليم، لا يمكن أن يستقيم، دون الاهتمام بالموازاة مع ذلك، بحفظ الوثائق الأرشيفية وضمان أمنها وسلامتها، عبر اعتماد عدة طرق وأساليب وتقنيات، دافعة في اتجاه حماية وتأمين وثائق الأرشيف ماديا، وفي هذا الإطار، تبنت مؤسسة أرشيف المغرب الشروط العامة (الدليل المرجعي، ص 46)، والتي سنها المجلس الدولي للأرشيف، والتي يتعين توفرها في المستودعات، ويتعلق الأمر بالشروط التالية:
– عزل المستودعات عن بعضها البعض، وعن باقي الفضاءات عن طريق ممرات؛
– حماية المستودعات من الأخطار الخارجية ووصلها بقاعة الاطلاع بممرات فاصلة، وبأبواب مضادة للنيران؛
– توفر المستودعات على منافذ إغاثة وإفراغ تستجيب لمعايير الأمان؛
– تجهيز المستودعات بعلامات تشوير واضحة ومرئية؛
– توفير أنظمة الإشعار بالحرائق والإطفاء، وكذا مراقبة الدخول من أجل ضبط الولوج إلى المستودعات؛
– تجهيز المستودعات بأنظمة التهوية، وبمكيفات الهواء، وبمضادات الرطوبة؛
– توفير أجهزة ضبط ظروف الحفظ (الحرارة والرطوبة النسبية والإنارة)؛
– عزل أماكن العمل عن المستودعات …
وعلاوة على هذه الشروط العامة، استعرض الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي، جملة من التوصيات، التي يتعين على الإدارات، في إطار عملها، إعداد تصور حول تشييد بناية لحفظ الأرشيف، منها:
– تجنب الأماكن الخطيرة وغير اللائقة (الأراضي المهددة بانزلاق التربة أو بالفيضانات أو بالزلازل، جنبات البحر…)؛
– تجنب الأماكن المجاورة للخطوط العالية التوتر، أو لمخازن المواد المتفجرة أو القابلة للاشتعال، أو لوسط ملوث؛
– توجيه البناية بما يسمح بتفادي دخول الرياح المحملة بالرطوبة إلى المستودعات؛
– ضمان حماية الوثائق المحفوظة بالمستودعات من أشعة الشمس المفرطة؛
– اختيار أساليب البناء الكفيلة بتأمين حماية أفضل للوثائق من الأمطار ومن الرطوبة، وكذا من التهوية المفرطة؛
– تجنب المعدات الموصلة للحرارة أو القابلة للتلف بسبب الرطوبة أو الفطريات أو الحشرات؛
– الإبقاء على مساحات فارغة، قصد توسعة البناية عند الاقتضاء…
ولم تتوقف التدابير الأرشيفية الوقائية عند هذا المستوى، بل تمتد لتستوعب كل ما يرتبط ببنايات/ مستودعات الأرشيف، من “أسس” و”جدران” و”أسطح” و”منافذ” و”أبواب” و”إنارة” و”حرارة” و”رطوبة” (الدليل المرجعي، ص 47 وما بعدها)، وتلامس حتى الكوارث المهددة لأمن وسلامة الأرشيف (الفيضانات، الحرائق، الزلازل، الانهيارات الأرضية، الحرارة المفرطة، الرطوبة المرتفعة، تسرب المياه، الحشرات، الفئران، الجردان، الطفيليات …)، وفي هذا الإطار فقد ألزمت المادة 24 من المرسوم التطبيقي، الإدارات والمؤسسات والهيئات المنتجة للأرشيف العمومي، إشعار مؤسسة أرشيف المغرب، فورا – في حالة كارثة أو أحداث خاصة -، قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة لصيانة الأرشيف المهدد، وذلك وفق “المخطط الاستعجالي” التي تعده المؤسسة سلفا، بتنسيق مع السلطات المعنية؛
وفي هذا الصدد، وبقدر ما تثمن تنصيص الدليل المرجعي على الشروط والإجراءات والتوصيات والتدابير الوقائية المذكورة، الضامنة لأمن وسلامة الوثائق الأرشيفية، بقدر ما نرى حسب تقديرنا، أن هذه الإجراءات والتدابير، تغيب جزئيا أو كليا عن شاشة أغلب الإدارات، في ظل ما يفرضه البعد الأمني الأرشيفي، من إمكانيات ووسائل مادية وبشرية ولوجستية، لا تحضر في واقع الممارسة الأرشيفية، وفي ذات السياق، من الصعب فتح نقاشات ذات صلة بأمن الأرشيف، وأغلب الإدارات المنتجة للأرشيف، تعيش حالة من الاختلالات البنيوية على مستوى تدبير الأرشيف، سيما فيما يتعلق بعمليات الإتلاف، كما أشار إلى ذلك المرسوم الحكومي المذكور، بل وبعضها يمارس الفعل الأرشيفي وسط طقوس العشوائية، ويعجز حتى على إعداد “جدول زمني للحفظ”، أما الحديث عن “المخطط الاستعجالي”، فيبدو نوعا من “الترف الأرشيفي”، في ظل بنية سياسية وإدارية وسوسيوثقافية، لم يتحرر فيها الأرشيف بعد، من سلطة التقصير والتهميش والتبخيس، وإذا كان من حل للأزمة الأرشيفية المستعصية، فلابد أن يمر عبر تفعيل آليات “المراقبة” و”الضبط” و”المساءلة” و”المحاسبة”، لأن العبث بالأرشيف أو تحقيره، هو جريمة صامتة، في حق الوطن، الذي لايمكن البتة، أن يحيى ويستمر، إلا بمرآة الماضي وأضواء الحاضر والمستقبل. على أمل أن تتحمل جميع الإدارات مسؤولياتها المواطنة أمام التراث الأرشيفي الوطني، فالوسائل والإمكانيات، لن تكون عائقا أمام العمل والإبداع، ولا مبـررا للتملص من المسؤوليات، فأحيانا بخطوات بسيطة وأفكار مبدعة، يمكن الخلق والإبداع مـع الإقنـاع .