مفهوم الثقافة واشكالات التعريف
بقلم : ذ . منير محقق
مقدمــة
تشكل المفاهيم والمصطلحات الركيزة الأساس التي يقوم عليها كل بحث، ويتطلب ذلك من كل دراسة أن تضبط هذه المفاهيم وتحدد إطار توظيفها، وهي عملية تستدعي التركيز والبحث المتأني، خصوصا إذا تعلق الأمر بمفاهيم عامة اعتاد الخاص والعام، على السواء، استعمالها بدلالاتها العامة، وانتشر تداولها بهذه الصورة أو تلك. ولذا فالتدقيق في المفاهيم يحتاج إلى وقفة متأنية كفيلة بإمكانية وضع حدود الالتقاء والاختلاف بينها، حتى يستطيع الدارس المرور مما هو عام إلى ما هو خاص، فعملية الحرص على تحديد المفاهيم وضبطها تعتبر من أدبيات البحث العلمي، غير أن بعضا منها يتميز بكونه عابر للتخصصات، وبالتالي تتعدد تعريفاتها فيتعذر التدقيق في ماهيتها ومساعيها. والثقافة من المفاهيم التي تدخل في هذه الخانة، حيث عرفت دلالتها تحولات مستمرة عبر التاريخ، حيث يستعمل هذا المفهوم بصفة محورية في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، كما يستخدم أيضا في اختصاصات أخرى مثل النقد الأدبي وعلم النفس والتاريخ واللسانيات والسيميائيات…
من أجل ذلك سنحاول تحديد جملة من التعريفات لمفهوم الثقافة والتي تختلف باختلاف الحقول المعرفية، كما تتعدد بتعدد المدارس والاتجاهات.
إن محورية مفهوم الثقافـة وكثافة محتواه وأهمية دلالاته تستوجب الاهتمام بفهمه والحرص على استيعابه والاجتهاد في إدراك أبعاده وبذل الجهد لتوصيل هذا الفهم إلى المتلقي سواء كان قارئا أو مستمعا فهذا المفهوم من أهم الأدوات والمفاتيح التي ينبغي أن تكون واضحة للجميع فالمفاهيم هي مفاتيح المعرفة فلا يمكن فهم بنية أي مجتمع إلا بفهم ثقافته ولا فهم ثقافته إلا بفهم تاريخه ولا فهم معوقات التنمية ومحفزاتها إلا بهذا الفهم الشامل وكذلك لا يمكن فهم طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي ومعرفة أسباب إخفاقاته أو نجاحاته إلا بفهم الثقافة التي كونته فالثقافة تنطوي على أسباب الانفتاح أو الانغلاق كما تتضمن عوامل التخلف أو الازدهار ولكن مع هذه الأهمية المحورية لهذا المفهوم فإنه ما زال غامضا ليس فقط بالنسبة لعامة المتعلمين وحتى لبعض النخبة الذين لم يولوه اهتمامهم، ولقد تعددت التعاريف لعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع لمفهوم الثقافة وهذا راجع إلى أمرين على الأقل:
1 ـ إما أن الثقافة ذات طبيعة يصعب تعريفها بمقاييس العلوم الاجتماعية الوضعية على الخصوص.
2 ـ وإما لأن الثقافة ظاهرة معقدة في حد ذاتها.
وقد ظهرت عدة معان للثقافة أواخر القرن الثالث عشر مشتقة من اللاتينية، وتذهب جميعها إلى العناية بالأرض وحرث الحقل، وفي بداية القرن السادس عشر لم تعد الكلمة تدل على “حالة الشيء المحروث”، بل راحت على “فلاحة الأرض”، لكن المعنى المجازي للمفردة لم يظهر إلا في منتصف القرن السادس عشر، إذ بات ممكنا أن تشير كلمة “ثقافة” حينذاك إلى تطوير كفاءة ما.
ومنذ القرن الثامن عشر بدأت كلمة “ثقافة” تفرض نفسها في معناها المجازي الذي تم إدراجه في قاموس الأكاديمية الفرنسية، في عصر الأنوار، اندرجت المفردة في إيديولوجيات، فراحت تقترن بالأفكار الدالة على التقدم والتطور والتربية والعقل، التي أشاعها وتبناها وأطلقها ذلك العصر، لكن كان آنذاك علاقة قرابة قوية بين مفهومين كبيرين هما “الثقافة” و”الحضارة” وكادت مفردة الحضارة تبتلع الأخرى، إذ شاع استعمالها أكثر ضمن معجم القرن الثامن عشر الفرنسي.
وبعض الدراسات تعتبر أن الكلمتين تنتميان إلى الحقل الدلالي ذاته تعكسان التصورات الأساسية، قد يتم الجمع بينهما أحيانا، ولكنهما ليستا مترادفتين تماما، إذ تستحضر الثقافة التقدم الفردي وتستحضر الحضارة التقدم الجماعي، لكن لم يكن تطور مفهوم الثقافة متماثلا في جميع البلدان التي ازدهر فيها، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الدول التي تطور فيها مفهوم الثقافة، فقد شهدت تطورا ملحوظا في جميع المناحي المعرفية، وبذلك تكرس المفهوم العلمي للثقافة، مما جعل الكلمة تبنى سريعا بمعناها الأنثروبولوجي في الاختصاصات المجاورة، ولاسيما في مجال علم النفس وعلم الاجتماع.
فالولايات المتحدة الأمريكية تختلف عن أوربا، من جهة السياقات، كونها بلد مهاجرين ذوي أصول ثقافية مختلفة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تؤسس الهجرة للأمة، وبذلك تتعرف الأمة على ذاتها باعتبارها متعددة الأجناس، الأمر الذي حدا بالبعض أن يطلق غالبا على هوية الأمريكيين بأنها هوية “همزات الوصل” إذ يمكن أن يكون الواحد منهم بالفعل “الإيطالي. الأمريكي” أو “البولوني. الأمريكي” أو “اليهودي الأمريكي” إلى … وقد تمخض عن ذلك ما أمكن اعتباره “فدرالية ثقافية” تسمح بالتعبير عن ثقافات مخصوصة لا تكون، مجرد إعادة إنتاج خالصة أو بسيطة لثقافات المهاجرين الأصلية. بل أقلمة لها وإعادة تأويل.
يرى دنيس كوش أن ما يسميه بالأسطورة الأمريكية تؤدي إلى اعتبار أن الهنود وهم تعريفا ليسوا مهاجرين، والسود وهم من كانت هجرتهم قسرية، ليسوا أمريكيين تماما.
إن الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية لم تستقطب في فرنسا أتباعا كثر، غير أن موضوع الكلية الثقافية أعيد تناوله، وإن من منظور جديد، من قبل كلود ليفي شتراوس الذي يعرف الثقافة كما يلي: “يمكن اعتبار كل ثقافة مجموعة أنساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين. كل هذه الأنساق تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الحقيقة الطبيعية والحقيقة الاجتماعية، وأكثر من ذلك إلى التعبير عن العلاقات التي ترتبط بها كل من هاتين الحقيقتين بالثانية، وتلك التي ترتبط بها الأنساق الرمزية ذاتها بعضها ببعض”.
كان ليفي شتراوس على معرفة جيدة بأعمال زملائه الأمريكيين، فقد أقام طويلا في الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها من عام 1941 إلى عام 1947، وتشبع بأعمال الأنثروبولوجيا الثقافية.
اقتبس ليفي شتراوس أربع أفكار جوهرية من روت بينيدكت: أولها أن كل الثقافات تتحد بنموذج، وثانيهما أن الأنماط الثقافية الممكنة محدودة العدد وثالثها أن دراسة المجتمعات “البدائية” هي أفضل طريقة لتحديد الترابطات الممكنة بين العناصر الثقافية، وآخرها أنه يمكن دراسة هذه الترابطات في حد ذاتها، في استقلال عن الأفراد المنتمين إلى المجموعة التي تظل هذه الأخيرة، بالنسبة إليها، لا واعية.
مفهوم الثقافة في اللغة الغربية:
قبل أن نبدأ الحديث عن هذه اللفظة في اللغة العربية، نفضل الحديث قبل ذلك عنها في اللغات الأجنبية الأخرى. فلقد كانت المرحلة الأولى لاكتشاف فكرة ثقافة هي محاولة تبيين مجموعة من النشاطات العقلية والمعنوية منفصلة عن المجرى العام لحياة المجتمعات الأوروبية، واتخاذ هذه المجموعة من النشاطات المعنوية والعقلية كمرجع يحتكم إليه أو اتخاذه كمحكمة إنسانية عامة، وكانت الفنون في تلك الفترة قد اكتسبت مفهوما جديدا ().
وأصلها في اللغات الأوروبية لاتيني هوCultura وظهر في هذه اللغة في القرن الأول الميلادي. وكان معناها التقديس أو العبادة، أي كان لها مدلول ديني صرف، له علاقة بالمعتقدات وبالغيبيات. و أما في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية فقد استخدم مصطلح “ثقافة” في الأغلب كمقابل للفظة Culture الإنجليزية ولفظـة Culture الفرنسية ولفظة Kultur الألمانية، فكان معناها الأول هو زراعة الأرض وحرثها، أي كان لها مدلول فلاحي يرتبط بالأرض ومسائل الفلاحة. ثم صار معناها فيما بعد هو تعهد النبات أو الحيوان حتى يكبر. أي صار لها مدلول تنموي. وهذه الألفاظ نجد أنها قد اكتسبت معناها الفكري في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر (2)، حيث كانت لفظة ثقافـة بمثابة علامة مميزة للبورجوازيـة الألمانية المثقفة في القرن الثامن عشر ثم تحولت لاحقـا إلى علامة مميزة للأمة الألمانية كلها في القرن التاسع عشر. وأصبحت السمات المميزة للطبقة المثقفة التي كانت تستعرض ثقافتها كالصدق والعمق والروحانية، وفي مقابل الدول الأخرى المجاورة مثل فرنسا وإنجلترا على وجه الخصوص، سعت الأمة الألمانية تأكيد وجودها عبر الرفع من شأن ثقافتها. لذا فقد سعى المفهوم الألماني للثقافة (Kultur) منذ القرن التاسع عشر إلى تحديد الاختلافات القومية وتعزيزها. وبالتالي، فإن هذا المفهوم يعتبر مفهوما خصوصياparticulariste يتعارض مع المفهوم الفرنسي العالمي للحضارة، وهو فهم يعبر عن أمة حققت وحدتها القومية منذ زمن بعيد، ثم اتسع معناها فيما بعد ليدل على التنمية بشكل أكثر اتساعا، فقد صارت تدل على التنمية العقلية بالتعلم والدرس والتنوير، وتهذيب الذوق بالتدريب العقلي وكذلك تهذيب السلوك، أي صار لها مدلول يمتزج فيه ما هو ثقافي وما هو نفساني. ثم بعد ذلك كثرت معاني هذه اللفظة، حتى صار يصعب حصرها في تعريف ضيق، أي أنها بعد أن صارت مصطلحا قائما بذاته تعددت معانيها وتشعبت.
وحين نقلت بعض المؤلفات في العلوم الإنسانية إلى العربية في مطلع هذا القرن، نقل معها هذا المصطلح الغربي، ووضع لفظ “ثقافة” مقابلا له. ويلاحظ على أن مصطلح “الثقافة” في اللغات الأوروبية عرف كثرة التعريفات الموضوعة له، جرّاء النجاح الكبير الذي حظي به حيث انعكست كثرة هذه التعريفات على هذا المفهوم في اللغة العربية.
.
مفهوم الثقافة في اللغة العربية:
أما مصطلح “ثقافة” في اللغة العربية الفصحى، فإن تكونه يختلف تماما عن نشأته في اللغات الأوروبية. وإدخاله إلى اللغة العربية كمصطلح يوافق معناه المعنى الدولي المتعارف عليه فهي عملية حديثة العهد ترجع إلى النصف الثاني من هذا القرن.
وأما معناها القديم فقد تنوع حسب المعاجم، فقد جاء في لسان العرب: “ثَقِفَ الشيء: حَذِقَهُ، وتَعَلَّمَهُ بسرعة، وظَفِرَ به. وجاء في “المعجم الوسيط” الذي وضعه أو أصدره المجمع اللغوي: ثَقِفَ العلم والصناعة حَذِقَهُمَا. وثَقَّفَ الإنسان: أَدَّبَهُ وهَذَّبَه وعَلَّمَه.
وحسب هذين التعريفين للثقافة يمكن أن نقول أن العرب فهمت الثقافة على نحو أنها هي التمكن من العلم والصناعة. وقد تدخل في “الصناعة” الفنون والآداب.
ومن جملة المعاني في هذا الصدد أن الثقاف هو ما تسوى به الرماح وثقفه تثقيفا أي سواه وقومه بعد اعوجاج، والثقاف والثقافة أيضا العمل بالسيف، وقيل في الخصام والجلاد.
وثقف الرجل ثقافة صار حاذقا خفيفا ومنه المثاقفة، ويقال أيضا ثقف الشيء وهو من سرعة التعلم وقد تستعمل هده الكلمة في الإدراك والأخذ والظفر، وقد جاء في ذلك قوله تعالى:{أينما ثُقُفوا أُخِذوا}، وقوله تعالى: {فإما تثقفنهم}، وكذلك: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}، وبذلك فإن لفظة “ثقافة “قد تأتي بمعنى الأخذ والظفر والإدراك كما هو مبين في الآيات، وأما في الاستعمال المجازي فقد ترد كلمة التثقيف بمعنى التأديب والتهذيب فيقال لولا تثقيفك وتوقيفك ما كنت شيئا وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك، كما في الأساس”().
والملاحظ أن المعنى الدولي للثقافة على نحو أنها تم التركيز فيه على الجماعة إذ الثقافة إرث جماعي للأفراد. في حين أن المعنى العربي تم التركيز فيه على الفرد إذ الإنسان المثقف هو المهذب السريع الإدراك للعلوم والصناعات. من هنا دعت الضرورة إلى إعطاء المعنى الدولي لهذه الكلمة حتى تقابل الكلمة الغربية Culture. إذن الكلمة عربية ومضمونها غربي محدث، وهكذا يتضح بأن لفظة “ثقافة” هي عربية وقديمة الاستعمال، وهي تعني الحذق والتعلم والفهم والفطنة، ولكنها اكتسبت مع الزمن، وبالتحديد منذ مطلع القرن العشرين معنى اصطلاحيا، حيث أصبحت تقابل المعنى الذي حملته منذ منتصف القرن الثامن عشر كلمة اللاتينية “Cultura ” التي شاعت في عصر النهضة في أوربا().
مفهوم الثقافة في الاصطلاح:
تعتبر الثقافة بمثابة سمة الشعوب والأمم، والعلامة الدالة على تطورها وازدهارها، فهي أهم مقوم يحافظ على الهوية والذاكرة، إنها مرآة عاكسة للفكر والجمال، وقد تعددت التعريفات التي قدمت لمفهوم الثقافة، لغموضه و التباسه بمفاهيم أخرى كالحضارة والتمدن والعلم، ومن التعريفات البارزة لمفهوم الثقافة هو التعريف الذي وضعته منظمة اليونسكو في مؤتمرها الخاص بالثقافة والمنعقد في مدينة مكسيكو سني، سنة 1982م، والذي يعرّفها كما يلي: “الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعنا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات”() .
ويفسر إعلان مكسيكو الصادر عن هذا المؤتمر الدولي، هذا التعريف قائلا: إن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وهي التي تجعل منه كائنا يتميز بالإنسانية المتمثلة في العقلانية والقدرة على النقد والالتزام الأخلاقي، وعن طريقها نهتدي إلى القيم ونمارس الاختيار وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه والتعرف على ذاته كمشروع غير مكتمل، وإعادة النظر في إنجازاته، والبحث دون توان عن مدلولات جديدة وإبداع أعمال يتفوق فيها على نفسه”().
من خلال هذا التعريف يتبين أن الثقافة هي أساس حياة الإنسان الفكرية والنفسية والعقلية والأخلاقية والجمالية، وهي الوسيلة للوصول إلى القيم والحرية والإرادة، والطريقة لممارسة النقد والالتزام، والبحث عن الإبداع والجمال، وقد تم التركيز فيه على الفرد الذي يتأثر بالجماعة ويؤثر فيها، بتفكيره وإدراكه وتعبيره وتفاعله.
وهناك تعريف آخر للثقافة والذي وضعته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التابعة لجامعة الدول العربية، ضمن ما أسمته: الخطة الشاملة للثقافة العربية التي أقرها الوزراء المسؤولون عن الثقافة في الوطن العربي سنة 1985م، حيث عرفت الخطة الشاملة للثقافة العربية الثقافة بقولها: “تشمل الثقافة مجموع النشاط الفكري والفني بمعناهما الواسع، وما يتصل بهما من المهارات أو يعين عليهما من الوسائل، فهي موصولة الروابط بجميع أوجه النشاط الاجتماعي الأخرى، متأثرة بها، معينة عليها مستعينة بها”().
وقد فسرت اللجنة هذا التعريف قائلة: “فالثقافة تنتظم جميع السمات المميزة للأمة من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية، وتشمل مجموعة المعارف والقيم والالتزامات الأخلاقية المستقرة فيها وطرائق التفكير والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني وسبل السلوك والتصرف والتعبير وطرز الحياة، كما تشمل تطلعات الإنسان إلى المثل العليا ومحاولة إعادة النظر في منجزاته، والبحث الدائب عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله وإبداع كل ما يفوق به على ذاته”().
حيث يجمع هذا التعريف للفظة ثقافة بين نشاطات الفرد الفكرية والفنية وبين الخصائص والسمات المميزة للأمة والجماعة الروحية والفكرية والعاطفية والفنية، وكذا تطلعات الإنسان إلى المثل العليا وسعيه لتجاوز ذاته().
ويقدم المفكر مالك بن نبي تصورا واسعا لمفهوم الثقافة، إذ يرى: أن الثقافة مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه، فهي إذن المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، إنها المحيط الذي يعكس حضارة معينة والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. وبهذا المعنى تعد الثقافة الصورة الحية لكـل النظم التي تضبط شؤون الأمـة، وتعد القيم السائدة في المجتمع، محور الثقافة التي تميز هذا المجتمع(). فالإنسان يولد وليس لديه أنماط فطرية محددة من النشاط بل يولد ولديه فقط بعض الانعكاسات المتصلة بحاجاته العضوية وهو إضافة إلى هذا عليه أن يتعلم التكيف مع البيئة الخارجية وأن يؤدي وظائف معينة في التنظيم الاجتماعي.
ولعل أشهر التعاريف المتداولة التي قدمت للفظة “ثقافة” هو تعريف الأنثروبولوجي الانجليزي إدوارد تايلورE.B. Tylor في كتابه : الثقافة البدائية،عام 1871م، والذي يقول أنّ :”الثقافة هي الكل المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والتقاليد وكل الإمكانــات الأخرى
والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع”().
وهي بهذا المفهوم تشمل كل القيم المادية والاجتماعية لأي جماعة من الناس فتشمل قيمهم ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية كما تشمل عاداتهم وآدابهم وفنونهم والكيفية التي يمارسون بها أوجه أنشطتهم المختلفة.
وقد حلل الدكتور عبد الرحمن الزنيدي تعريف إدوارد تايلور إلى عناصر خمسة (). وهي كالتالي:
– أن قضايا الثقافة ذات بعد إنساني لا مادي.
– أن هذه القضايا تتمثل صورة بناء متكامل.
– أنها ليست تميزا فرديا لشخص وإنما هي اجتماعية.
– أنها ليست معارف نظرية، فلسفة أو فكرا مجردا ولكنها حياة اجتماعية وواقع فكري وسلوكي.
– أنها بمجموعها مميزة للمجتمع أو الأمة التي تصدر عنها.
والواقع أن تعريف تايلور، يتميز بالموضوعية، إلا أنه يركز على المظاهر الخارجية للثقافة أو ما يسمى بالحضارة، لكن الثقافة ليست هذه المظاهر فحسب، بل هذه المظاهر وما سبقها من فعاليات عقلية وطاقات روحية وأساليب النقد والتغيير والتجديد.
و”الثقافة” مرتبطة بوجود الإنسان، فالثقافة هي حياة الإنسان في تجلياتها المتنوعة بين جميع البشر، وبطرائقها وكيفياتها المختلفة أيضا داخل نفس الجماعة البشرية الواحدة، وهذه الكيفيات هي التي تميز المجتمع المثقف من غير المثقف إذا وجد مجتمع غير مثقف ().
والثقافة” تبعا لما كتبه، إدوين هوتشيون (Hutchions Edwin) سنة 1995، ليست مجموعة أشياء مادية أو مجردة، بل سياق تطور، إنها عملية معرفية إنسانية تتحقق في آن معاً داخل الفكر البشري وخارجه ().
وبتعبير آخر فالكائنات البشرية هي، بأفعالها المموضعة، في أساس طبائع ثقافتها وليس العكس.
ويرى ريموند وليامز أن التطور الذي طرأ على لفظة ثقافة ، يمثل سجلا لعدد هام ومتواصل من التغيرات التي حصلت في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية. حيث اعتبر أن تاريخ فكرة الثقافة هو سجل لردود أفعالنا فكريا و شعوريا للظروف المتغيرة في حياتنا العامة، حيث يقول في هذا الصدد ما مفاده “وتاريخ فكرة الثقافة هو سجل لتعريفاتنا ومعانينا التي يجب ألا تفهم إلا عبر سياق أفعالنا “(3 )
وقد حدد وليامز تعاقب المعاني التي مرت بها أطوارها التاريخية ، فبعد أن كان معناها يدل على اتجاه النمو الطبيعي في الفترة التي وصفت بالثورة الصناعية، أصبح فيما بعد يدل على تهذيب شيء ما ، إلى أن تغير المعنى في القرن الثامن عشر و أصبحت لفظة الثقافة كما يقول وليامز حالة أو عادة عقلية عامة ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الكمال الإنساني ، وغدت تعني ثانيا الحالة العامة للتطور الفكري في مجتمع بأسره ، إلى جانب معنى ثالث هو الكيان العام للفنون . وإلى أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الثقافة تعني معنى رابعا هو طريقة شاملة للحياة ، مادية و عقلية وروحية”.( 4)
والثقافة في نظر عالم النفس الأميركي جيروم برونير هي أولا نتاج الذاتية الإنسانية التي بدورها تعطي الصيغة للفكر الذي أنتجها. وفي هذا الصدد يقول برونير: “ليست الثقافة هي التي تصنع الفرد بل الأفراد هم الذين يصنعون ثقافتهم. فالثقافة ظاهرة رمزية تتيح لأعضاء مجتمع معين إمكانية تحديد هوية ظاهرات وأحداث وأوضاع وموضوعات باستخدام تصنيفات مقسّمة. علماً بأن هذه المقولات تكون غالباً مكتسبة بصورة ضمنية غير واعية، الأمر الذي قد يظهرها وكأنها طبيعية”.
ويضيف برونير قائلا: “الثقافة في معناها الأكثر شمولا هي موضوع عملية خلق متجدد: أي إنها تفسر ويجرى التفاوض بشأنها بصورة مستمرة من قبل الذين يشاركون في خلقها. بكلام أوضح إنها تشكل في آن معا مسرح تفاوض وإعادة تفاوض بشأن المعنى وبشأن مجموعة القواعد والخصائص التي تتيح تفسير الفعل كما يتحقق”().
ونفهم من برونير بأن الفكر البشري يولد بالفعل، وهذا الفعل يؤدي إلى الثقافة التي بدورها تعطي شكلاً أساسياً للفكر الإنساني ويتضح من خلال ما تم طرحه أن “المنظومات الرمزية التي تتيح بناء المعاني الثقافية تشكل صندوقة أدوات مشتركة وفي غاية الخصوصية. من هنا إن كل من يستخدم هذه الأدوات يصبح بحكم الواقع ظل الوحدة الجماعية”().
ويرى هوفستاد(Hofstede) أن الثقافة هي البرمجة الجماعية للعقل الذي يمكنه أن يميز أعضاء إحدى المجموعات البشرية عن المجموعات الأخرى().
فمصطلح الثقافة يستعمل بشكل جماعي ليشير إلى مجموعة من الاتجاهات أو المعتقدات والقيم التي تتناسب مع الظروف والبيئة المتغيرة.
يرى سبرادلي(Spradley) أن ثقافة المجتمع تتكون من كل ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع. فالثقافة ليست ظاهرة مادية فحسب، أي أنها لا تتكون من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات، وإنما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصية الإنسان، فهي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء().
وهذا التعريف يتفق إلى حد بعيد مع التعريف القائل بأن مصطلح الثقافة في اللغة الإنجليزية يدل على معنى الحضارة(Civilisation).
وقد استعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والاجتماعي والحضاري. ولهذا، يعتقد معظم علماء الأنثروبولوجيا أّن الحضارة ما هي إلا مجرد نوع خاص من الثقافة، أو بالأحرى شكل معقد من أشكال الثقافة يتضمن العلوم والفنون والتراث والمهارات والاتجاهات التي ينتجها المجتمع وتشكل الأسلوب السائد في الحياة ، والثقافة هي موسوعة حياة أي مجتمع، فلا يستطيع مجتمع من المجتمعات أن ينمو ويتطور دون ثقافة، هذا النمو والتطور رهين بتشجيع هذا المجتمع للثقافة والعمل على نشرها بين أفراده .
عمل موفق السي منير محقق