من يوميات حارس عام للخارجية
بقلم : حميد شعيبي
كم جميل أن تكتشف أخيرا نقطة قوتك في مضمار جديدٍ عليك وتجد في ضاحيته مربط فرسك !
كل ما في الأمر أن تؤنسن ما أمكن علاقتك بالآخر؛ تهدأ ولا تنفعل ،لا تحكم على سلوك هذا الآخر الانفعالي في ساعتها وتحاول بالمقابل النبش بتروٍ وتؤدة عن فتيل المشكل وتجعل منه نقطة الصفر ارتداداً و”ريمونتادا”تحقق بها هدفا إنسانيا نبيلا.
التفاصيل:
اليوم وأنا عائد إلى مكتبي بعد أن دبرت عملية دخول التلاميذ إلى قاعات الدرس في فترة ما بين الحصص سأفاجأ بهبوب تلميذ على أهبة لفظ حممه متذمرا ونفسيته في قمة الاهتراء،عيونه مغرورقة ولسانه لا يلوك سوى عبارة واحدة”افصلوني،لا أريد أن أبقى بالمؤسسة”…..ثم استطرد والدموع تنهمر على خديه:”إني أتعذب”.
تفطنت بخبرة السنين إلى أنه يتصرف بغير شعور منه وأن نفسيته عليلة تستدعي، فعلا ،على وجه السرعة ،جلسة شحن إيجابية،قد تندمل نسبيا بها ندوبه النفسية.
حاولت استنفار كل ما خبرته وتعلمته ،ململما همتي لأظفر بثقة مراهق مكلوم بأن أكون سببا في ثنيه عن رأيه ورده عن طريق اللاعودة.
ربتّ على كتفه وتوجهنا إلى المكتب ،دعوته للجلوس فهدأ روعه نسبيا.
علاجا لهذا الوضع وفي ظل تزاحم زخم المهام المنوطة بي والتي تجعل المرء كآلة لا تتوقف اخترت أن أتبنى استراتيجية مناسبة للبدء بحيث لا يكون كلامي وزرا وزيتا على نار متقدة.
قلت له :”دعنا الآن من كل هذا واعتبرني صديقا لك ،وكأننا الآن في شرفة أمام البحر نحتسي بنّا”.بهذا أنا أحاول أن أجلب لمخيلته جوا مفعما بالهدوء.
وبدأ الارتياح يدب لنفسيته وحاجز جلوسه مع مسؤول بالمؤسسة يتبدد.
قال :”أنا في سنتي الأخيرة بالمؤسسة ،لكن أشعر بتقهقر في مستواي،لست راضيا أبدا على هذا….
واستجمعها في نفس واحد نفره كما ينفر ثور الكوريدا :”قررت أن أنقطع عن الدراسة “.
قلت له:” ليست نهاية العالم!”
وأردفت وكأن فرصتي قد حلّت،مزهوا بين الفينة والفينة ببيت من بعض أبياتٍ لشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم التي كان يحلو لي كمدرس أن أستشهد بها للنشء لتشجيعهم واستجماع هممهم :
“……..إذا مضى عهد التعلم وانقضى
وأصبحت من سكر الشبيبة صاحيا
وسرت إلى حضن الكهولة مسرعا
ستلقى بميدان الحياة الدواهيا
فتندم لو كانت تفيد ندامة
وتمسي على عهد الدراسة باكيا
نصحتك دع عنك السآمة واغتنم
لذائذ لا تلقى لهن ثوانيا
ولو ملكت نفسي زمام اختيارها
لقضيت عمري في المدارس ثاويا”
ذكرت له نماذج لشخصيات انبعثت من رمادها وسردت على مسامعه تجارب عديدة لحالات نخرها الفقر وقلة الحيلة إلا أنها لم تتذمر وجعلت من أزمتها حافزا لبلوغ أهدافها.
(٠٠٠)ودون إغراق في تفاصيل أكثر فقد استشعرت شيئا فشيئا أنّ كلامي ينفذ إليه ويسري مفعوله عليه …وبدا أن الوحش الموسوس الجاثم على دواخل المراهق بدأ بالاندحار والتبدد ،إذْ بدأت تطفو على محياه بشائر التفاؤل والإيجابية….
(…)قدمت إحدى أستاذاته والتي يحدوها نفس وازع بث الطاقة الإيجابية وزرع بذور الأمل واللايأس في نفوس ثائرة على شفير الجنوح قد تقتلها بنتُ شفة(كلمة) طائشة كم قد تحييها بنت شفة شافية.
أخذَتْ بيده وأعادته إلى الفصل قائلة:”سأكون لك سندا لأني أراهن عليك “.
ما كان لي بفضل هذه المساهمة المتواضعة في هذا الارتقاء بالعلاقات الإنسانية وفكّ بعض من شفرات صدودها إلاّ أنْ أُبَشّ وأفرح، وكأنّ لسان حالي يقول :”وجدتها ،وجدتها_سر المهمة الجديدة وجوهرها”.
وهي بالضبط سرّ أي مهمة في الحياة.