نظام “المآسي” .. من يفك العقدة؟
بقلم : عزيز لعويسي
يستمر مسلسل النضال التعليمي، بإضراب لمدة ثلاثة أيام، دشنت حلقته الأولى، بمسيرة حاشدة بمدينة الرباط، شارك فيها عشرات الآلاف من نساء ورجال التعليم، الذين أتوا إلى العاصمة من كل فج عميق، مطالبين بالكرامة الضائعة، وبإسقاط نظام وصف بالمآسي، لما حمله من مقتضيات، كرست الإحساس الفردي والجماعي بالحكرة في أوساط الشغيلة التعليمية بكل فئاتها؛
مسيرة ثانية ضخمة، تجتاح شوارع العاصمة الرباط، بعد مسيرة أولى تزامنت واليوم العالمي للمدرس بتاريخ الخامس من شهر أكتوبر المنصرم، في انتظار ما سيسفر عنه مخاض النضال في قادم الأيام والأسابيع، ما لم تفك عقدة نظام المآسي، وبيـــن المسيرتين، عاشت وتعيش المدرسة العمومية حالة من الشلل غير المسبوق، باتت معه السنة الدراسية على كف عفريت؛
باستثناء لقاء أول أجراه رئيس الحكومة مع النقابات التعليمية، واللقاء الثاني الذي ترأسه وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات، يلاحــظ حالة غير مفهومة من الصمت على المستوى الرسمي، قد يرى فيها البعــض، نظرة للحكومة، مبنية على التعالي والتبخيس والاستخفاف، تجاه ما يجري من احتقان تعليمي، ويرى فيها البعض الآخر، غياب المسؤولية والجدية اللازمتين، من جانب صانعي القرارالسياسي والتربوي، فيما يتعلق بالتعامل مع قطاع حيوي واستراتيجي، يعد مفتاحا للتنمية الشاملة، ومدخلا لامحيد عنه، لبناء مواطني الغد، ويرى فيها البعض الثالث، أن الحكومة تغيب عنها الإرادة السياسية، التي من شأنها الدفع في اتجاه إيجاد الحلول الممكنة للأزمة المستشرية في الساحة التعليمية، قبل فوات الأوان؛
مسيرة الرباط الحاشدة، بقدر ما كانت قوية وضخمة شاء من شاء وأبى من أبى، بقدر ما كانت مسؤولة ومنضبطة، ولم تخرج عن نطاق ما حركها من أهداف معلنة واضحة ومشروعة، وحتى لا نبخس الناس أشياءها، فقد كان للسلطات الأمنية نصيب في هذا الامتحان النضالي الشاق، بعدما تم الاكتفاء بأدوار الحماية والمراقبة عن بعـد، والابتعاد عن أية تصرفات أو استفزازات، من شأنها إخراج المسيرة عن نطاقها الاحتجاجي السلمي المشروع، لكن في ذات الآن، نؤكد أن المسيرة على الرغم مما ميزها من تأطير ومسؤولية وعفوية وانضباط، تركت خلفها رسائل واضحة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، تدعو إلى دق ناقوس الخطر أكثر من أي وقت مضى، لاعتبارات عديدة، منها:
ما عكسته من احتقان فردي وجماعي، قوى ويقوي الإحساس بانعدام الأمن والاستقرار، بكل ما لذلك من تبعات أمنية واقتصادية وتنموية، وبشكل خاص على صورة المغرب، وما ينتظره من رهانات تنموية كبرى، ومن استحقاقات رياضية إفريقية ودولية؛
ما عمقته من فقدان الثقة في الدولة والمؤسسات والسياسات العمومية، في ظل اكتفاء صانعي القرار السياسي والتربوي بالصمت والفرجة، دون التحرك لإيجاد الحل أو الحلول الممكنة، القادرة على امتصاص الغضب وتذويب جليد الاحتقان؛
ما قوته وتقويه من بؤر الغضب والتوتر واليأس في أوساط نساء ورجال التعليم، وما حركته فيهم، من أحاسيس “الحكرة”، في ظل التعامل مع مطالبهم المشروعة، بأساليب “التجاهل” و”الإهمال” و”التجاوز” و”التسويف”…، ونفس الإحساس بات يتقاسمه حتى آباء وأمهات وأوليــاء الأمور، الذين خرجوا إلى الشوارع دفاعا عن حق أبنائهم في التعلم، دون أية نتيجة تذكــر؛
ما لها من تداعيات على النظام العام والسلم الاجتماعي، في سياق داخلي موسوم باتساع دائرة الفقر والبؤس والاحتقان، نتيجة اشتداد حمى الأسعار وغلاء المعيشة وارتفاع مستوى التضخم، وسياق خارجي مطبوع بالقلق والتوتر، استحضارا للتحديات المرتبطة بالوحدة الترابية، واعتبارا للحرب على قطاع غزة، وما لها من تأثيرات على الوجدان الشعبي المغربي؛
ما للاحتقان التعليمي ككل، من ضرب لصورة المدرسة العمومية، ونسف لما نزل لها من إصلاح، كلف إمكانيات مادية باهظة، دون أية آثار تذكر لا على المدرس ولا المتعلم…
ومهما أسهبنا في استعراض تداعيات وآثار ما يجري من احتقان تعليمي منذ ما يزيد عن الشهر، فالثابت أن كرة الثلج، آخذة في التمدد والانتشار، والنظر إليها بمنظور الاستخفاف والتبخيس والتجاهل، ما لم نقل “لي الذراع” و”التعالي” و”الاستقواء”، لن يكـــون إلا “مجازفة”، لا أحد يمكنه توقع تطوراتها ونتائجها، لا على مستوى المدرسة العمومية وما يرتبط بها من “تهديد لمستقبل السنة الدراسية”، ولا على مستوى “النظام العام” و”السلم الاجتماعي”، في سيـاق داخلي وخارجي، يقتضي التزام أقصى درجات “التعقل” و”الحكمة” و”المسؤولية” و”الجدية” و”التبصر” و”بعد النظر”؛
رئيس الحكومة عزيز أخنوش، يبقى مطالبا أكثر من أي وقت مضى، بحسن الإصغاء إلى نبض الشارع التعليمي، والتقاط إشارات مسيرة الرباط الأولى والثانية، وما رفع فيها من مطالب وشعارات، والانخراط الاستعجالي في أية عملية أو حوار أو تفاوض من شأنه “فك عقدة نظام المآسي”، استحضارا للمصالح العليا للوطن وقضاياه المصيريــة، واعتبارا لمركزية المدرسة العمومية، في بلوغ مرمى أية نهضة تربوية وتنموية منشودة، وفي هذا الإطار، من غير المقبول إطلاقا، أن تتسع دائرة رفض ومعارضة هذا النظام المثير للجدل، لتستوعب علاوة على عشرات الآلاف من المدرسات والمدرسيـن، شرائح واسعة من الأساتذة الجامعيين والإعلاميين وعقلاء وحكماء البلد، فضـلا عن آباء وأمهات وأوليــاء التلاميذ، إلا الحكومة، التي لازالت مصرة على احتضان مولود، تبرأ منه الجميــع، على أمل أن يتم التدخل لاحتواء كرة الثلج في أقرب الأوقات الممكنـة، مادامت الإمكانية لازالت متاحة، لاحتوائهـا وتذويبها، والحذر ثم الحذر من فــوات الأوان…