وثيقة بوفكران بقلم : عزيز لعويسي

admin30 أكتوبر 2024آخر تحديث :
وثيقة بوفكران بقلم : عزيز لعويسي

وثيقة بوفكران

بقلم :   عزيز لعويسي

مواصلة منها لسياسة استهداف الأرشيفات الخاصة ذات النفـع العام، تسلمت أرشيف المغرب قبل أيام، وثيقة ذات قيمة تاريخية وتراثية، من عائلة الحاج العلمي الصنهاجي، عبارة عن عريضة احتجاجية توثق لأحداث بوفكران سنة 1937، لما أقدمت السلطات الاستعمارية الفرنسية، علـى تحويل مياه واد بوفكران لفائدة قلة من المعمرين الفرنسيين، ضدا على مصالح الفلاحين وعموم سكان العاصمة الإسماعيلية مكناس، الذين عبروا عن غضبهم وسخطهم، بأشكال وأساليب نضالية مختلفة، كان من ضمنها تحرير “عريضة احتجاجية”، كان الحاج العلمي الصنهاجي أحد موقعيها، وقد ظلت العريضة المذكورة، محفوظة لدى عائلته، لمدة تقارب 90 سنة، إلى أن قامت السيدة حورية الصنهاجي، أصالة عن نفسها ونيابة عن إخوانها وأخواتها، بتسليمها لمؤسسة أرشيف المغرب في إطار اتفاقية هبة؛

المؤسسة وبعد أن أخضعت الوثيقة/ العريضة المذكورة ( تمتد لحوالي ثلاثة أمثار طولا، و0,5 مثرا عرضا، وتتضمن 1486 توقيعا)، لما تتطلبه من ترميـم ورقمنة، تيسيرا لإتاحتها للباحثين وعموم الجمهـور، نظمت بتاريــخ 14 أكتوبر 2024، بمقرها بالرباط، حفلا رمزيـا لتقديمها والإحاطة بالسياق التاريخي الذي أنتجها، وهذه الوثيقــة، وعلاوة على ما تجسده من قيمة تاريخية وتراثية ونضاليــة، فهي مرآة عاكسة لما عاناه المغاربة عموما وفئة الفلاحين خصوصا، من استغلال استعماري متعدد الزوايا، وعلامة دالة على مركزية الماء في حياة الفلاحين وعموم المغاربة زمن الحماية، كمعطى ضابط للأمن والطمأنينة والاستقرار والحياة، ومعزز للهوية والانتماء والارتباط الوثيق بالأرض، ما يجعل المساس به بأي شكل من الأشكال، محركا حقيقيا لمشاعر الاحتجاج والانتفاض والنضال، كما حدث في واقعة بوفكران، التي شكلت بما تخللها من أحداث عنيفة، محطة بارزة في معركة التحرير الوطني؛

حيث لم يكتف وقتها، المعمرون الفرنسيون بالسطو والسيطرة على أراضي الفلاحين المغاربة، بل أقدموا على تحويل مياه واد بوفكران، الذي كانت مدينة مكناس، تعتمد عليها اعتمادا أساسيا، وذلك لتسخيرها في عملية سقي أراضي المعمرين الفرنسيين، مما قــوى الإحسـاس الفردي والجماعي بالحكرة والإهانة والظلم والحيف في أوساط الساكنة المكناسية، وأجج مشاعر الاحتجاج والنضال دفاعا عن الأرض والماء، وعبرهما عن الحرية والكرامة والأمن والاستقرار، في ظل سياق استعماري، طبعـه الاستغلال الاستعماري الكثيف، وميزه تجاهل المستعمر للمطالب الإصلاحية التي تقدمت بها الحركة الوطنية، وتماديه في سياسة العنف، في حق زعماء ورمـوز الحركة الوطنية وعموم المغاربة، وما رافق ذلك من اعتقال ونفي وتقتيل وتشريد وتجويـع؛

وثيقة تاريخية و أرشيفية بهذه الحمولة التاريخية والنضالية، ما كان لها أن تستمر في الحياة حتى اليوم ويحتفى بها، لو لم تصادف عائلة قدرت قيمتها التراثية والعلمية، فأحسنت رعايتها والمحافظة عليها، إلى أن ائتمنت أرشيف المغرب عليها، وفي هذا الصدد، وبقدر ما ننوه بعائلة الراحل الصنهاجي على هذا السخاء الأرشيفـي والحس الوطني النبيل، بقدر ما نقف وقفة احترام وتقدير للمدير الأسبق لأرشيف المغرب الأستاذ جامع بيضا، الذي ترك خلفه سجلا من المنجزات والأعمال، كان آخرها تمكين المؤسسة من وثيقة بوفكران، التي من شأنها تقوية الرصيد الوثائقي للمؤسسة فيما يتعلق بالذاكرة النضالية الوطنية، وبدون  شك، فقد ترك الرجل خلفه، مؤسسة وطنية، تحظى بالثقة والاحترام والمصداقية، ما يجعلها قادرة على مواصلة المزيد من الفتوحات الأرشيفية المبينة، والدور الآن على الخلف، الذي نتمناه خير خلف لخير سلف، لما فيه خدمة للمسألة الأرشيفية الوطنية كتراث وحداثة؛

ما أقدمت عليه السيدة حورية الصنهاجي، نيابة عن عائلتها، بقدر ما يؤكد الثقة التي باتت تحظى بها أرشيف المغرب، بقدر ما يظهر أن المسألة الأرشيفية الوطنية، هي مسؤولية أفراد وجماعات ومؤسسات، إذا ما استحضرنا أن التراث عموما والأرشيف خصوصا، هو ملك مشترك للأمة، ومرأة عاكسة لتاريخها، وعلامة دالة على حاضرها ومستقبلها، وإذا كانت الكرة الآن، في مرمى مالكي الأرشيف، الذين يلزم أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام تاريخ وذاكرة الوطن، فهي في ذات الآن، مسؤولية شاقة ملقاة على كاهل الإدارة الجديدة لأرشيف المغرب، تستوجب استثمار ما راكمته المؤسسة في هذا الإطـار، من تجارب وخبرات، وما أرسته من استراتيجية ناجعة، قوامها الثقة” و”المصداقية” و”التواصل الفعال” و”الإلحاح” و”الإقناع” …، وهذه المفاتيح تكفي، لاقتحام مختلف القلاع الأرشيفية الخاصة، حتى لو كانت منيعة ومستعصية. 

بقيت الإشارة إلى أن “وثيقة بوفكران” بما تحمله من حمولة تاريخية وتراثية وهوياتية ونضالية، وعلى الرغم من أهمية الحفل الرمزي الذي نظمته أرشيف المغرب للتعريف بها وبسياقها التاريخي، فهناك حاجات وضرورات تربوية وتعليمية وديدكتيكية، تفرض توسيع نطاق التعريف بها وتوظيفها، بدل أن تبقى حبيسة جدران المؤسسة، ورهينـة فئـة قليلة من الباحثين والمهتمين بحقل التاريخ والأرشيف والتراث عموما، قياسا لما بات يسجل في الوسط المدرسي، من تراجعات مقلقة في منسوب القيم الوطنية، وما يرتبط بها من مسؤولية والتزام واعتزاز بتراث الأمة وثوابتها، ما يستدعي الاستنجاد  بكل المبادرات والإنجازات التاريخية والتراثية المفيدة، التي من شأنها النهوض بالقيم الوطنية والدينية، وتعزيز روح الانتماء للوطن في أوساط الناشئة؛

وفي هذا الإطار، وبما أن الوثيقة، تتقاطع مع عدد من المناهج والبرامج الدراسية بالتعليم المدرسي، وخادمة لبعض أهدافها ومقاصدها التعليمية التعلمية، خاصة فيما يتعلق منها بمنهاج مادة الاجتماعيات وما يرتبط بـــه من برامج دراسية، يروم بعضها، ترسيخ الوعي بدور النضال الوطني في تحقيق قيم الحرية والسلم والاستقلال والوحدة الترابية، وإدراك ما قام به المغاربة من مجهودات وما تحملوه من محن وأعباء في سبيل الدفاع عن وحدة الأرض وسلامة التراب ) نشير في هذا الإطار إلى الوحدات الدراسية ذات الصلة بنظام الحماية، ونضال المغرب من أجل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية: برنامج التاريخ للسنة الثالثة ثانوي إعدادي، برنامج التاريخ للسنة الأولى باكالوريا علوم، برنامج التاريخ للسنة الثانية باكالوريا آداب وعلوم إنسانية (، فيمكن التفكير، بناء على ذلك، في الصيغ الممكنة، التي من شأنها الدفع في اتجاه وضع نسخة من الوثيقة المعنية “ورقية” أو “رقمية” على الأقل، رهــن إشارة أساتذة مادة الاجتماعيات، وعموم أساتذة المواد الخادمة لقضايا المواطنة والهوية والتراث، ما يساعد على التوظيف الأمثل لهذه الوثيقة كدعامة ديدكتيكية، تيسر مهمة وضع المتعلمات والمتعلمين، في صلب معركة المقاومة والتحرير، وما تحمله من دلالات وعبر وقيم وطنية ودينية، 

أرشيف المغرب التي تربطها اتفاقية شراكة وتعاون مع المديرية الإقليمية للتربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالمحمدية، يمكن لها أن تستثمر هذا الإطار التعاوني، ما يساعد ليس فقط، على مزيد من التعريف بالوثيقة وبالسياق التاريخي الذي أنتجها، بل والإسهام في خدمة البرنامج الدراسي وما يهدف إلى تعزيزه وترسيخه، من قيم وطنية متعددة الزوايا، عبر إتاحة الوثيقة لأساتذة مادة الاجتماعيات وعموم الأساتذة بمديرية المحمدية، لتوظف كدعامة ديدكتيكية حاملة لأهداف تعليمية تعلمية معززة للقيم الوطنية وخادمة لها؛

 وهي فرصة للتنويه بما حققته الشراكة من أهداف في ظل موقعيها، الأستاذ جامع بيضا، المدير الأسبق لأرشيف المغرب، والأستاذ محمد جبوري، المدير الإقليمي الأسبق، للتربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالمحمدية، ونتمنى أن يواصل الخلف، سواء في الرباط أو المحمدية، مهمة تنزيل أهداف هذه الشراكة غير المسبوقة على المستوى الوطني، بالتفكير في سبل ومجالات جديدة للتعاون، خادمة للتربية على  حفظ الأرشيف، وداعمة لثقافته في الوسط المدرسي، و”وثيقة بوفكران” موضوع هذا المقال، هي مناسبة لتجديد دماء الشراكة، بفتح أوراش جديدة بشأنها، على بعد أشهر من الوصول إلى محطتها النهائية، ما لم يتم تجديدها، إذا ما حضرت الإرادة والجاهزية والاستعداد .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة