وداعا شيرين .. وداعا أيتها الإنسانة
بقلم : عزيز لعويسي
خبر اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، انتشر عبر العالم كما تنتشر النار في الهشيم، في لحظة حزن وألم، كانت تقتضي ترك اللغط والجدل، والانفلات من قبضة الأنانية المفرطة وطرح أسئلة القصف والهجوم والإثـارة، وتجاوز المعارك الغوغائية التي لا تقدم ولا تؤخر، إلا فرض الحصار على القيم والانقضاض على ثقافة الرقي والخلق والإبـداع والجمال، وتفرض الإنصات إلى براءة صوت الإنسانية التي تجمعنا، والجنوح الطوعي نحو محراب البشرية الذي يذكرنا بالأخوة التي نصر على إنكارها وتجاوزها بخبثنا وأنانيتنا، وقسوتنا وكبريائنا وتسلطنا على بعضنا البعض بدون خجل أو حياء.
لحظة اغتيال أليمة كانت تقتضي أن نلتف جميعا حول الإنسانية التي تجمعنا بكل اختلافاتنا وتناقضاتنا ومرجعياتنا، أن نؤجل كل صراعاتنا العبثية ولو إلى حيـن، لنصطف في خندق واحد، لندين بدون خلفيات أو أفكار مسبقة، اغتيال صحفية أثناء قيامها بواجبها المهني، في انتهاك جسيم لكل المنظومات القانونية والحقوقية الدولية، واعتداء جسيم على كل الضوابط القيمية والأخلاقية النابعة من عمق الإنسانية التي تشملنا.
لكن وبدل أن نستمع إلى صوت الضمير الإنساني الذي يفرض التعبير عن مشاعر الألم والمواساة والرحمة والمغفرة والتضامن والتعاضد، وبدل أن نتقاسم جميعا خطاب التنديد والشجب والإدانة والمطالبة بمعاقبة المتورطين في هذا الاغتيال البشع، أشعلنا فتيل حرب كلامية، انقسمنا فيها إلى فرق وشيع وخوارج حول جواز “الترحم” على الفقيدة من عدمه، البعض اعتبرها شهيدة وأجاز الترحم عليها، والبعض الآخر أدان عملية الترحم عليها بالنظر إلى ديانتها المسيحية، ولم تتوقف الحكاية عند عتبات جواز الترحم على الشهيدة من عدمه، بل وركب الكثير على الموجة، ومنحوا لأنفسهم سلطة اتخاذ القرار، فسارعوا إلى توزيع صكوك الكفر والشرك وتحديد من سيدخل الجنة ومن ستكون النار عاقبته، ومن يستحق الرحمة ومن هو خارج نطاقها، دون استحضار أن رحمة الله الرحمان الرحيم “وسعت كل شيء”.
ومرة أخرى نتساءل: كيف يخوض البعض في قضايا هامشية أو لا تحظى بالأولوية على الأقل، من قبيل قضية “الشيخ والشيخة” و”الترحم على غير المسلم”؟ بينما هؤلاء يلعبون “دور الكومبارس” لما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية مؤثرة على حاضر الأمة ومستقبلها من قبيل “الفقر” و”الأمية” و”أزمة التعليم” و”محدودية الصحة” و”البطالة” و”قضية الوحدة الترابية”، و”الجريمة” و”الهدر المدرسي” و”العنف المدرسي” و”الجنس مقابل النقط” و”التنمية”، و”الحقوق والحريات الفردية” و”الترامي على المال العام” و”تمدد الريع” و”التطرف” و”الإرهاب” و”الوحدة العربية” و”تفرقة الصف العربي” و”المخاطر الوبائية” و”التهديدات الإرهابية” وغيرها، وترك مواضيع وقضايا من هذا القبيل، والانخراط الحماسي في نقاشات جانبية غير مؤثرة، فلا نرى في ذلك إلا جبنا ونوعا من اللغط والإثـارة المجانية، إن لم نقل نوعا من “الركوب على الموجة”، ولما تزول هذه الموجة أو تتراجع، يتم التراجع إلى الخلف في انتظار موجة جديدة قد تحمل معها الإثارة وترفع من جرعات اللغط والجدل.
وعليه وباسم رحمة رب العالمين الرحمان الرحيم التي وسعت كل شيء، واستحضارا للإنسانية التي تجمعنا، وإيمانا منا بالقيم الإنسانية المشتركة، ودفاعا عن قيم المحبة والسلام والتعايش والسلام والأخوة، وانتصارا للحق في الحياة الذي يعد من أقدس الحقوق الإنسانية، وابتعادا عن أي خطاب مكرس للغط والجدل والنفاق والإقصاء والتعصب في الرأي، نعبر عن مشاعر الأسف والألم والمواساة لما وقع من جريمة إنسانية نكراء، سائلين الرحمان الرحيم أن يشمل الشهيدة بواسع رحمته ومغفرته، وأن يلهم ذويها وكل الصحافيين ومحبي السلام عبر العالم، الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهي فرصة سانحة، للمطالبة بفتح تحقيق نزيه وعادل لتوقيع الجزاء على من أخرج هذا الاغتيال البشع فكرة وتخطيطا وتنفيذا، ولدعوة كل الضمائر الإنسانية الحية للتنديد بهذه الجريمة الوقحة، لما لها من تكريس لمشاعر الحقد والعداء بين الأديان، ومن آثار عميقة على مساعي التقارب والسلام بين إسرائيل ومحيطها العربي والإسلامي، على أمل نطلق عنادنا وأنانيتنا طلاقا لارجعة فيه، ونصغي إلى صوت الإنسانية التي تجمعنا ولابد أن تجمعنا، من أجل عالم عادل وآمن ومتسامح ومتعاون … وداعا شيرين أبوعاقلة .. وداعا أيتها الإنسانة …