أصداء مازغان : محمد غزلي
تم عرض المسرحية ليلة البارحة 2023/3/23 في إطار برنامج حفل افتتاح مسرح عفيفي بالجديدة الممتد إلى غاية أبريل القادم .
عندما نتحدث عن مسرحية «غريب» لـفرقة ربيع الإبداع فإننا نتحدث عن نسق مختلط تتفاعل فيه مجموعة من العناصر الجمالية، بعيدا عن التلفيقية، بحيث حضرت الموسيقى، الرقص، الأدب، التشكيل، الأشعار ، الغناء الخ .
تضمنت المسرحية إسقاطات سياسية ما يعني أن كاتبها إنسان معني بالهَم السياسي، فكل مَشاهد المسرحية لا تخلو من إسقاطات بدءا بـالتصميم الفني لفضاء المسرحية حيث نلاحظ على مستوى الديكور حضور مكتبة مليئة بكتب عَنى مؤلفوها بالمقاومة مثل جبران والمنفلوطي والصديقي والعروي والجابري وزفزاف وغيرهم، وحضور خلفية موسيقية عربية متمثلة في مقطوعات معزوفة على آلة العود، مقطع للشيخ إمام «مر الكلام» كنموذج يعطي الانطباع على تلاقح الفن الغنائي بالفكر والكتاب، بمعنى أن ما يمكن الإشتغال عليه لصناعة وعي عربي بواسطة الفكر والكتاب هو نفسه يمكن الاشتغال عليه من خلال الموسيقى والفنون الجميلة.
على مستوى الخطاب اهتمت المسرحية بإيقاظ العاطفة العربية بكل وسيلة لذلك تنوعت مكوناتها التعبيرية والتي تستمد من التاريخ والحكاية ما يوجهنا تلقائيا نحو دلالات المسرحية وأبعادها الثقافية.
انقسم العَرض إلى ثلاث لوحات:
اللوحة الأولى يسرد فيها عباس «غريب» مسيرته النضالية عبر محطات مختلفة، كاشفا عن هويته الحقيقية: “مهنتي شهيد كبقية الشهداء”. يقوم باسترجاع ذكريات الشغب الطفولي زمن الدراسة الابتدائية والثانوية ثم الجامعة ومن ثم تأثره بأفكار المقاومة ووسائل المواجهة الثورية.
إنه يعكس طبيعة الذهنية العربية الممجدة للماضي الأدبي والإبداعي العربي. أو الذات العربية التي نشأت على الإغراق في التشبث بالبطولات الإبداعية العربية وتعكس نمط الشخصية الساعية وراء حلم عربي طالما تغنى به الكتاب والمفكرون العرب ألا وهو حلم الوحدة الوطنية العربية. تقع مرويات هذه اللوحة زمن النكسة العربية سنة 1967، وفيما يقوم عباس برواية ماضيه المجيد تظهر شخصية مجسدة دور المرأة، سنكتشف أنها نسخة، تواكب سيرة عباس من حيث اللعب الدرامي وعملية السرد لدرجة التماهي كما لو كانت نسخة طبق الأصل لشخصية عباس، فهي تعرف كل الأشياء التي يعرفها عباس، بل تعرف أكثر مما يعرفه عباس، برغم أنه يعيش العزلة والوحدة، فما دلالة هذا الاختراق؟
إنها تدفعنا إلى الاعتقاد بأن مجتمعا تكثر فيه وسائل الاختراق والدس والتربص، ليس من الصعب رصد حركات المقاومة، بل رصد ما يفكر فيه المنخرطون في مشروع النضال والمقاومة وما يسميه البعض بمشاريع الممانعة في فترة السبعينات والثمانيات والتي ما تزال، يبرز هذا الخطاب متجليا بشكل لافت عندما تخاطب المرأة عباس في نهاية المسرحية:
« النكسة لازالت بين يديك » .
– اللوحة الثانية : يمكن عنونتها بـ (الاعتقال بعد النضال) .
يظهر عباس خلف القضبان ، وتظهر كذلك شخصية المرأة خلف القضبان، بمعنى أن ما ينطبق على الرجل ينطبق على المرأة، بحيث لا يمكن أن نُخرج المرأة من بوتقة الرجل، نفس المبدأ ونفس المصير ونفس الاتجاه. تعبر هذه اللوحة عن نتيجة من نتائج المقاومة والنضال وتحت أي خطاب أو إيديولوجيا، لأن المشكلة ليست في الخطاب والإيديولوجيا بقدر ما هي في النضال بحد ذاته. فحين يعمد مُخرج المسرحية المبدع سعيد كرامو، كما النص، ونحن هنا نتعامل مع نص المُخرج بالأساس،(حين يعمد) إلى التعتيم المتعمد عن نوعية الإيديولوجيا المُحرِّكة للفعل النضالي، وإن كنا نلاحظ حضورا للتيار الماركسي اليساري حين يستحضر عباس واحدا من أصدقائه النائمين في رفوف المكتبة وهو كارل ماركس وحضور كل التيارات الإنسانية بما فيها التيار الديني.
في تصوري أنه حضور مقصود وليس إقحاما عشوائيا كما يتبدى لأول وهلة بالنظر إلى واقع التاريخ والجغرافيا العربية، على اعتبار التحولات الفكرية والثقافية التي عرفها الوطن العربي بعد النكسة وما تلاها من تعدد في وسائل المقاومة واختلافها من حيث التعاطي والمعالجة، كل تيار حسب توجهه وإطاره المرجعي ومنطلقه الفكري، وهو ما انعكس بالضرورة على الساحة الفنية والأدبية.
اللوحة الثالثة :
تظهر شخصية عباس في حالة يرثى لها. اللوحة تبدو مستقلة عن اللوحات السابقة، بحيث لاتُظهر أية إرشادات مسرحية ترشدنا إلى تفسير المشهد، وهذا لا يعني أنه مشهد مجاني كما الحال في الاستعراض الراقص المصاحب للوحة الذي نعتبره شكلا من أشكال البحث عن الذات خارج الحرب والخراب والاحتلال ولو بوجود تلك الحرب والأزمة وتلك النكسة. نعم نحن نرقص في محاولة للإنعتاق من دوامة الموت والاستشهاد والتمزق العربي والاغتراب الذاتي والوجداني القومي. إنه إعادة الاعتبار للجسد وخلق نوع من الفرجة وإبعادنا عن صور الاعتقال وما يايترتب عن النضال من عواقب. هل الرقص هنا إلهاء/ملهاة تم توظيفها لننسى النكسة؟
يظهر في المشهد شخصان يمسكان بستارة من طرفيها في الوقت الذي يحاول فيه شخص ثالث التحرر والانعتاق من ربقة الستارة المضروبة على جسدة الملفوف بداخلها.
نجد أنفسنا أمام اللوحة الثالثة لا نعرف الضفة التي تنتمي إليها حين يعمد المخرج إلى التعتيم عن المكان الذي تظهر فيه شخصية عباس الذي يظهر هذه المرة جالسا على كرسي، هل هو مستشفى للامراض العضوية أم هو مارستان يأوي المجانين والمنكوبين، إرشادات مسرحية من نوع لافتة مكتوب عليها «مستشفى للأمراض العقلية» مثلا، ربما كان على المخرج أن يختار كرسيا متحركا تقتعده شخصية عباس وهو يرفع رأسه إلى أعلى، يميل رأسه مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، لا يستطيع إغلاق فمه المفتوح المُرتخي وكأن سائلا لزجا يخرج من جوانب فمه، يرتعش بشدة كما لو كانت أفخاذه المرتعشة تهتز من شدة البرد أو التعذيب وسط صمت رهيب ونظرات بلهاء. تلك الإرشادات كفيلة بأن ترفع اللبس عن المشاهد. يمكن أن نقترح هنا، إضافة إلى تلك الإرشادات، استعمال ثياب ممزقة وشعر منتفش وغير مرتب. بيد أن المخرج ربما اعتمد على مخيلة المتلقي وهو سبب مقبول، فقد أعطانا مقدمة مليئة بالمأساة وعلينا أن نستخلص النتيجة، والنتيجة- نتيجة مشاريع المقاومة والنضال- كانت هي الاستشهاد أو الاعتقال أو الجنون. فليست مهمة المخرج أن يعطينا أشياء محسومة ومباشرة.
على ضوء هذه اللوحات نستطيع أن نقول أن مسرحية غريب مسرحية مشبعة باهتمام الإنسان العربي والقضية التي يحملها في دمه، قضية الوطن، البحث عن الوطن سواء عبر تشكيل وجدان عربي جماعي أو وجدان فردي غريب كما يقول عباس في أحد منطلقاته لتبرير غربته وعزلته: «غريب وسأبقى غريبا حتى تحملني المنايا الى الوطن».
(*) مسرحية غريب من تأليف المتعدد شكيب عبد الحميد.
تشخيص الفنان زهير برطال ، مريم الصوفي ، بدر هاشم
إخراج المبدع سعيد كرامو
شكرا لكم على هذه المتعة