فلسطينيٌّ في تَاونات
بقلم : إدريس الواغيش
في الوقت الذي يعمل فيه المغاربة قاطبة على تحسين صورة المغرب داخليا وخارجيا، في فترة حسّاسة من تاريخنا الوطني، تنصبّ العُيون على أدق تفاصيل اقتصادنا وحياتنا الاجتماعية. أبطال يعملون في صمت على الارتقاء بصورة البلد إلى أعلى المراتب العالمية في مجالات: الطبّ، الرّياضة، العلوم الحَقّة، العلوم الطبيعية وفيزيائية، وعلوم أخرى أكثر تعقيدا في مجال التكنولوجيا الحديثة. وبدأنا نشعر بالفخر والاعتزاز، ونتكلم عن مغرب متقدم وعصري، انتقل من مرحلة متخلفة نسبيا إلى مرحلة أكثر حداثة وجدّية، وإذا بنا نتفاجأ على الطرف الآخر ببعض الدّبابير والفقاقيع، تُصِرُّ في عِنَادٍ على الإساءة إلى المغرب بأبشع وأرذل ما يُمكن من أفعال حقيرة، انقضى زمنها، يتمثل بعضها في التّرامي على أراضي الغير من دون موجب حق، والاستيلاء على قطعة أرض صغيرة، لا تسمن ولا تُغني من جوع، حتى أن المرء يستحيي من التحدث في شأنها أو الكتابة عنها. ويبقى فعل التّرامي على أراضي الغير، ظاهرة قديمة وحديثة في نفس الوقت، ولكنها غير عادية في البادية المغربية، وغير مقبولة لا أخلاقيا ولا قانونيا في زماننا الحاضر. قد نسمّيها عودة أو حنين إلى «صعلكة» قديمة سادت في فترات من التاريخ المغربي، بدأت مع نهاية القرن 19 وانتهت مع بدايات القرن 20م.
هذه الظاهرة تسيئ إلى سمعة البلد، وتتجدّد بأشكال مختلفة، ولكنها في كل الأحول عمل بذيء، ولا يليق بالمكانة الحضارية التي وصل إليها المغرب. فعل إجرامي من الناحية الأخلاقية يعود بنا إلى مرحلة زمنية مقيتة، كان قد انقسم فيها المغرب إلى «بلاد السِّيبَة» و«بلاد المَخْزن»، واشتهرت فيها أسماء بعض قُطّاع الطرق أو ما كان يسمّى «الزّطّاطة»، وأصبحت أسماؤهم تتردّد على ألسنة الناس، كما تتردّد أسماء بعض مشاهير لاعبي كرة القدم. ظاهرة اجتماعية قديمة جديدة، تستحق المتابعة والدراسة والتحليل من السوسيولوجيّين، ولا يقتصر الاهتمام على الجانب القانوني فيها، ولكن تحديد الدوافع السوسيولوجية والسيكولوجية.
أحيانا، يصبح المواطن المغربي حُرًّا طليقًا يتمتع بالحُرّية، حرية لا تليق به ولا يليق بها، لأنه لا يبتغي من خلالها عملا صالحًا يقترّب به إلى الله عزّ وجلّ، ولا هو مُؤمن يظهر عبرها مخافة مقام ربّه، لأن من يقوم بهذا الفعل، وَجد نفسه مسلما بالصُّدفة من خلال انتمائه الجُغرافي، ولا هو كائن إنسانيّ يأنّبُه ضميره الحيّ، ويبتعد عن ارتكاب الآثام والمعاصي والترامي على مِلك الغير، فقد مات ضميره من زمان، ولا يعطي صورة مشرقة للوطن ونموذجا عن عفّة المواطن المغربي، ولا يخاف العدالة والقانون المُعتمدة في البلد، لأنه يعرف بالفطرة وقليل من التّحايُل بالممارسة أن المساطر القانونية في محاكم المغرب مُعقدة، تحتاج الوقت والصعود والهبوط، والوقوف أمام أبواب المحاكم مرتفقًا بالشُّهود، في حالة إن وُجدوا، لأن المغربي يُصلّي في المسجد أو في بيته، وينطق بالشهادتين خوفا من نار جهنم، ولكن حين يتعلق الأمر بنُطق شهادة الحق، يخرس لسانه وتستعصي الشهادة أن تخرج من لسانه، كأنها قطعة صبّار يكسوها الشوك. وهنا يكون لازمًا على المظلوم أن يبحث عن إثباتات وأدلة، مع ما يدفع من أموال بالواضح للمحامين وصناديق المحاكم، وأخرى بالمرموز «من تحتها» للمُرتشين وعديمي الأخلاق والضمير، إلخ. وبالتالي، تبقى القوانين المغربية مكتوبة في المُجلدات، مُجمّدة على رُفوف المَحاكم، خادمة طائعة للظالمين، وما أكثرهم، غيرُ مُنصفة لتُعَساء العدالة والمَظلومين.
كثيرا ما كانت تؤلمني، منذ أن وَعِيتُ وَعْيي الشّقِيّ، مشاهد الجنود الإسرائيليين على شاشات التلفزيونات، وهم يصولون ويجلون فسادًا وإفسادًا في حقول الفلسطينيين، يحرقون بشكل مُتعمّد أشجار الزيتون، وكثيرًا ما كنت أتساءل في حيرة من أمري: لماذا يقصدون شجرة الزيتون بالذات، دون غيرها من الأشجار؟ تتعدّد الأسباب وتتناسل، ويبقى أهمّها على الإطلاق في النهاية، ما يتعلق بالهَوية والأرض، وليس بدهاليز السياسة الإقليمية أو الدولية، كما كنت أعتقد أو يذهب تفكيري في الغالب. شجرة الزّيتون هي رمز الهَوية الفلسطينية، كما هي رمزنا نحن المغاربة، والعلاقة ثابتة تاريخيا بينها وبين الإنسان، سواء على أرض فلسطين المقدسة، حيث نزل أغلب الأنبياء أو المغرب أرض الأولياء والصالحين، وإن كانت العلاقة بين شجر الزيتون والفلسطيني قديمة قِدَم التاريخ، منذ أن كلّم سيّدنا موسى عليه السلام ربّه من فوق جبل «الطور».
الله عزّ وجلّ أقسم بأربعة، كما جاء في قوله تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ»، إكرامًا لشجرتين مُباركتين: التين، الزيتون، ومكانين مقدسين: البلد الأمين: مكة، طور سينين: جبل موسى عليه السلام. وتبقى عملية حرق شجر الزيتون في حدّ ذاتها مقصودة، سواء في المغرب أو فلسطين، تستهدف في ظاهر الأمر الشجر، ولكن ما خفي من عملية الحرق، هو تهجير الفلسطينيين من بلادهم وتجريدهم من أراضيهم، ثم الاستيلاء عليها بعد ذلك، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة والقطاع. شجرة الزيتون هي علم فلسطين الذي لا يرفع فوق المرافق العمومية والإدارات، ولكنه مَغروسٌ ومُصانٌ في القلوب، وحرق أشجار الزيتون يدخل في صُلب محاولة إسرائيل للتلاعب بالهوية الفلسطينية، ومحوها من فوق فلسطين أرض الأنبياء.
عملية حرق أشجار الزيتون في المغرب، على قلتها، لا تختلف كثيرًا، بحُكم القِلّة والاستثناء، والاستثناء لا يُقاس عليه، ولكنه موجع ولا يقل إيلامًا. الإنسان المغربي من أكثر الكائنات في الكون تشبُّثا بالأرض وأكثر تعلقا بشجر التّين والزّيتون، وربما أكثر حتى من الفلسطينيين أنفسهم. حرق شجر الزيتون جهارًا نهارًا قرب طريق وطني عام في تاونات، هو أحد أشكال العُنف المُمارس في حق أكثر من جهة، وعلى رأسها الإنسان المغربي، سواء أكان مقيما في أرض المهجر أو مستقرا في المغرب، ودفعته الظروف لأن يكون بعيدا عن بلدته التي خلق فيها، حتى لو كان متواجدا في وطنه. حرق شجرة زيتونة والاستيلاء على أرض الغير، عملٌ حقيرٌ يُقوّضُ مُقوّمات الدولة المغربية الحديثة، المفروض فيها أن تنبني على العدل والمساواة، والعدل معناه أن يشعر الإنسان بالأمن والأمان والطمأنينة فوق الأرض التي يعيش فيها، وإن لم يكن الأمر كذلك، وحصل العكس، تبقى الأرض التي لا عدل يحميه فيها، لا أمن له فيها، ولا أمان له فوقها. صدفة هذه المرة، في زيارتي الأخيرة لقريتي «أيلة» في مرنيسة بإقليم تاونات، بعد سبع سنوات من الغياب الشبه قسري عنها، وجدت نفسي لا أختلف في شيء عن ذلك الفلسطيني المَجروح في داخله، هو الذي طالما اتّجهت إلى الرباط، لأتضامن معه في شارع محمد الخامس في محنته مع الكيان الغاصب أمام قبّة البرلمان، وأتضامن معه ضد جنود الاحتلال الذين يحرقون أو يقتلعون شجر الزيتون في فلسطين. ولم يخطر ببالي يوما أنني سأعيش نفس وضعيته، في دوار أيلة بمرنيسة في تاونات.
استولى مستوطن على أرضي، والمستوطن ليس بالضرورة أن يكون إسرائيليا، وحرق شجرة زيتونتي. فكرت مليًّا في الأمر، ولم أجد في الأخير فرقا بيني وبين الفلسطيني. يا للمفارقة، انتبهت إلى أنّني وإيّاه توأمان، كلنا مساكين. الفرق بيننا في البُعد الجغرافي، أنا مُقيم في المَغرب، وهو يُقيم هناك في الضفّة الغربية أو في قطاع غزّة. أنا أصارع شبَحًا، فيما الفلسطينيُّ يصارع عدوّا واضحا هو العدوّ الإسرائيلي. يتعدّد الاستيطان، ويبقى في الأخير هدفه واحدُ، مهما اختلفت الجغرافيا وأصول النزاع. كلُّ من استوطن أرضًا ليست أرضه، في نظري هو مستوطن ومُغتصب.
هناك مستوطنون إسرائيليون في فلسطين، يحرقون شجر الزيتون ويستولون على الأرض، وفي المغرب عندنا مستوطنون في كل بوادينا وقرانا، وما أكثرهم، لا يختلف الأمر كثيرا. حتى في المغرب، هناك مستوطنون من نوع آخر، قد يكونون إخوة أو جيران وغرباء، يستولون على الأرض ويحرقون الزيتون. تحضرني عدة حكايات مؤلمة حدثت في البادية المغربية، سمعتها بأذنيّ في محاكم فاس وتاونات، آخرها قصة صديقي الأستاذ عبد السلام، ذهب يومًا ليبيع قطعة أرض في ملكيته، وعند وصوله إلى البلدة، وجد أخاه قد أحضر شهودًا زورًا وعدلان، وبتواطؤ مع الجميع كتبها في ملكيته. ذهب الأستاذ عبد السلام طفلا يحلم بلقاء ذاكرة أبوين ماتا مُبكرا، ورجع رجلا يبكي حُرقة أرض سُرقت منه ظلما، واغتصبت منه قسرا، ولم تعُد بالشرع والقانون في ملكيته.
أنا أيضا بدوري، سافرت مسافة طويلة وتحملت كل مشاقها، طمعا في صلة الّرحم مع أرض الآباء والأجداد في البلدة التي كبرت فيها، ولكنني للغرابة وجدت غرباء قد استولوا على قطعة أرض ليست لهم، هي أرضي، وحرقوا شجرة زيتون، هي في ملكيتي. صحيح، أنني مغربي مقيم هنا في مأمن بوطني، والفلسطينيين ليسوا هناك كذلك. وأنا لا أسمع مثلهم دويّ انفجارات بالقرب منّي، لا هدير درونات إسرائيلية فوق رأسي، ولا أعاني مثلهم من ويلات حرب، ومُضاعفات حصار مدني وعسكري جائر. ولكن في المقابل، حرقوا شجرة زيتون لي واستولوا على أرض هي لي. فما الفرق، والحالة هذه، بين ما أعانيه أنا كمواطن مغربي مُستقل وآمن في بلدي؟ وبين ما يعانيه الفلسطيني المُحتل في فلسطين؟ في الأخير لا شيء، سوى الجنسية وطبيعة الجغرافيا، وتدويل الصراع…!!